2011/06/26

الاختلاف في التفسير حقيقته وأسبابه د.وسيم فتح الله

البحث القيم :
  الاختلاف في التفسيرحقيقته وأسبابه.
 د. وسيم  فتح الله
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛


فمما لا شك فيه أن علوم القرآن والتفسير من أشرف العلوم إن لم تكن أشرفها، ذلك أن مرادها التوصل إلى فهم أشرف كلام وأحسنه على الإطلاق. كلام الخالق سبحانه وتعالى إلى عباده وعبيده. 
ولقد أمرنا عز وجل بتدبر كتابه فقال :" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"[1]، فكان الاشتغال بذلك من أفضل ما قُضيت فيه الأوقات وفنيت فيه الأعمار، وعليه فقد اخترت أن أتناول في هذا البحث مسألة الاختلاف في التفسير فأسأل الله تعالى التوفيق والسداد إنه أكرم مسؤول وخير مأمول.

تمهيد:

إن الناظر في علم التفسير وكتب التفسير ليقف على ما لا مفرَّ من الإقرار به ألا وهو وقوع الاختلاف في هذا التفسير، إذ أن وقوع الاختلاف في تفسير كتاب الله عز وجل حقيقة لا ينكرها إلا مكابر أو عديم الاطلاع على كتب التفسير والمفسرين، ولكن ما يهمنا في هذا المقام هو تحرير مسألة الاختلاف في التفسير هذه من جهتين، أولاهما هي كون هذا الاختلاف الواقع في التفسير حقيقياً أم متوهماٌ، وثانيهما هي كون هذا الاختلاف مطعناً في القرآن الكريم أم لا، ونحن نعلم جواب الجهة الثانية وهو السلب حتماً حيث قال تعالى :" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"[2] ولما كان هذا الاختلاف الواقع في التفسير يمثل مورداً من موارد الشبهات التي يُلبِّس بها المغرضون على المسلمين ويثيرون الفتن من خلالها ويشككونهم في كتاب ربهم كان واجباً علينا تحرير هذه المسألة من أجل الرد على هؤلاء المغرضين حتى لا يفتتن بهم عامة المسلمين أو طلاب العلم ونحوه.
 ولقد قمت في هذا البحث الموجز باستعراض الاختلاف في التفسير للوقوف على حقيقته وأسبابه، ولقد عرضت في المبحث الأول مسألة وقوع الاختلاف في التفسير  في ثلاثة مطالب، بينت في الأول معنى الاختلاف، ثم تعرضت في المطلب الثاني لمراتب التفسير، وقررت في المطلب الثالث وقوع الاختلاف في التفسير. أما المبحث الثاني فقد تألف من ثلاثة مطالب عرضت في الأول منها الاختلاف في التفسير بالمأثور وتناولت في المطلب الثاني الاختلاف في التفسير بالرأي وجاء في المطلب الثالث تحقيقٌ في حقيقة هذا الاختلاف الواقع في التفسير بنوعيه، وذيلت بالخاتمة التي عرضت فيها خلاصة وأهم نتائج البحث.


المبحث الأول : وقوع الاختلاف في تفسير القرآن الكريم :

إن من أساسيات هذا البحث أن نقرر أن الاختلاف في تفسير كتاب الله عز وجل واقعٌ فعلاً، لأن الكلام كله متفرعٌ عليه، ولا شك أن موضوع الاختلاف في تفسير القرآن الكريم متفرعٌ عن الاشتغال بهذا التفسير، إذ لا يُتصور أن يقع الاختلاف دون وقوع التفسير، لهذا كان لزاماً علينا أن نلمَّ بصورةٍ موجزة حول معنى الاختلاف في التفسير ومراتب تفسير القرآن الكريم حتى نستطيع تصوُّر إمكان وحقيقة الاختلاف في كل مرتبة من هذه المراتب.

المطلب الأول : معنى الاختلاف في التفسير :

الاختلاف لغةً من اختلف ضد اتفق[3]، أما التفسير فهو لغةً من الفسر – بسكون السين - أي الإبانة وكشف المغطى،والتفسير لغةً أيضاً نظر الطبيب إلى الماء[4] (ليستدل على المرض)، وقال الجرجاني : التفسير في الأصل الكشف والإظهار، وفي الشرع : توضيح معنى الآية وشأنها وقصتها والسبب الذي نزلت فيه بلفظ يدل عليه دلالة ظاهرة.[5] ويمكن تعريف التفسير اصطلاحاً بأنه " علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية"[6].
وعلى هذا يكون المراد بالاختلاف في التفسير عدم اتفاق الباحثين في القرآن الكريم  على دلالة الآية أو اللفظ القرآني على مراد الله تعالى منها، بحيث يتوصل المفسر إلى معنى مغاير – ولو في الظاهر – لما توصل إليه غيره.

المطلب الثاني : مراتب التفسير :

لما كان التفسير ينقسم عموماً إلى قسمين كبيرين هما التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، وإن حقيقة وأسباب الاختلاف قد تتباين في كل منهما،  فإنا نتناول هذين القسمين بكلمة موجزة فيما يلي:

أولاً : التفسير بالمأثور :

تقدم معنا أن معنى التفسير الكشف والبيان، وأنه في الاصطلاح البحث في كتاب الله تعالى بغية التوصل إلى مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. أما التفسير بالمأثور فحاصل كلام أهل التفسير فيه أنه :" تفسير القرآن الكريم بما جاء في القرآن الكريم أوالسنة أو كلام الصحابة"[7]، ثم إن كثيراً من أهل التفسير على أن من لم يجد من القرآن أو السنة أو كلام الصحابة ما يقف به على مراد الله تعالى فإنه يأخذ بأقوال التابعين على اختلاف بين المفسرين في قيمة هذا التفسير أو مدى إلزامه للمفسر[8]، ولعل الراجح بالنسبة للتفسير المأثور عن التابعين أن ما أجمعوا عليه حجة، وأن ما اختلفوا فيه ليس بحجة على من خالفهم، ثم يُنظر إلى من أُثر عنه فإن كان ممن يأخذ عن أهل الكتاب فلا يعتمد عليه وإن كان ممن لا يأخذ عنهم فتُعتبر أقوالهم[9] ، والله تعالى أعلم.
وإن من نافلة القول أن نقرر أن تفسير القرآن بالقرآن حجة قطعاً لأن القرآن كله صحيح، وأما السنة فالمقصود ما هو مقبول منها – وهو الصحيح والحسن –  فكذلك،  وكذلك الحال بالنسبة للمنقول عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. والخلاصة ها هنا أن العمدة على علوم الرواية في هذا اللون من التفسير للقرآن الكريم.

ثانياً : التفسير بالرأي :

الرأي لغةً الاعتقاد[10] ، واصطلاحاً : الاجتهاد [11]، وأصحاب الرأي : أصحاب القياس لأنهم يقولون برأيهم فيما لم يجدوا فيه حديثاً أو أثراً[12]. والحاصل من هذا أن التفسير بالرأي يعتمد على النظر والاجتهاد أو على " الدراية" سواء أكان الاجتهاد في الترجيح بين احتمالات اللفظ أو الاعتماد على اللغة العربية ونحو ذلك، ولا يخفى أن هذا النوع من التفسير لا بد له من آلة شأنه شأن أي لون من ألوان الاجتهاد،فإذا ما حصّل المفسر بالرأي هذه الآلة والتزم بضوابطها وبمنهجها الصحيح كان تفسيره من النوع المقبول – وعليه يُحمل قول من يرى جواز التفسير بالرأي – وأما إذا ما  ما اقتحم من ينتسب إلى التفسير هذا البحر العباب بدون آلة سليمة ولم يلتزم بضوابط الاجتهاد والنظر الصحيح في كتاب الله عز وجل فلا شك أنه يخرج من دائرة القبول إلى حيز الذم والرفض – وعلى مثل هذا التفسير المذموم يُحمل قول من يرى حرمة التفسير بالرأي- كما قال الشيخ الزرقاني :"فإن كان الاجتهاد موفقاً أي مستنداً إلى ما يجب الاستناد إليه بعيداً عن الجهالة والضلالة فالتفسير به محمود وإلا فمذموم"[13]، وأرى أن أختم هذه الإشارة الموجزة ببيان جملة الضوابط التي يجب على المفسر أن يلتزمها في اجتهاده بالرأي وهي :
1- البحث عن تفسير الآية في القرآن الكريم أولاً والسنة الصحيحة ثانياً فإن وجده فيهما فلا يعدل إلى رأيه البتة.
2- فإن لم يجد بحث في أقوال الصحابة فإن صحت فلها حكم المرفوع إذا كانت مما لا مجال للرأي فيه – كأسباب النزول – ولها حكم الموقوف على الصحابي فيما عدا ذلك ولكنها أيضاً حجة لقوة احتمال سماعها من الرسول صلى الله عليه وسلم ولوفرة ما تهيأ للصحابة رضوان الله تعالى عليهم من أسباب فهم كتاب الله تعالى كشهود تنزيله وبيان النبي صلى الله عليه وسلم لهم إياه وسلامة لغتهم ومعايشة ملابسات الوحي وغير ذلك.
3-  مراعاة ما تقتضيه اللغة العربية خصوصاً معاني الألفاظ والتراكيب عند العرب وقت التنزيل، وعدم الخروج عن قواعد اللغة عند التفسير بالرأي.
4- مراعاة ما يقتضيه الشرع وما تدل عليه أصول الشريعة فلا يحكم بمجرد المعنى اللغوي بل يراعي ما يناسب مقاصد وأصول الشريعة، وأن هذا القرآن الكريم كلام الله تعالى أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليأمر الناس وينهاهم به وليخبرهم عن ربهم جل في علاه، فينبغي مراعاة ذلك.
5- ألا يخوض في ما استأثر الله تعالى بعلمه كالمشتبهات التي ليس إلى تحديد مرادها من سبيل سوى النقل ولا نقل.
6-   ألا يقطع بأن ما توصل إليه بالرأي والتدبر والنظر هو مراد الله تعالى.
7-   ألا يعتقد رأياً ويحمل آيات القرآن عليه، فلا يجعل هواه حكماً على القرآن بل العكس.[14]
فهذه لمحة موجزة عن التفسير بالرأي، وخلاصة أمره أنه تفسير قائم على الدراية، وهو – في نظري – جزء متمم للنوع الأول من التفسير القائم على الرواية، وباجتماعهما تكتمل حلة التفسير ما بين رواية قائمة على النقل الصحيح ودراية قائمة على تدبر العقل الصريح.

المطلب الثالث : وقوع الاختلاف في تفسير القرآن الكريم:

إن من المفيد قبل الاستطراد في هذا البحث أن نقرر وقوع هذا الاختلاف في التفسير حقيقةً، ليكون الكلام مبنياً على الواقع لا مجرد النظرية والاحتمال، وإن الأمثلة على اختلاف تفسير القرآن أكثر من أن تحصى، ولهذا أكتفي بعرض أربعة نماذج هاهنا، دون تفصيل في أسباب هذا الاختلاف فلهذا موضع آخر من البحث إن شاء الله، وفيما يلي هذه النماذج:

1-  عند قراءة قوله تعالى :" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم "[15] نجد أن تفسير السلف لهذه النعمة جاء بأكثر من وجه، فعن مجاهد قال : فجّر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون. وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل وأنزل عليهم الكتب. [16]
2-  في قوله تعالى :"اهدنا الصراط المستقيم"[17] تعددت أقوال السلف رحمة الله عليهم فعن ابن مسعود أن " اهدنا الصراط المستقيم " هو الإسلام، وعن أبي العالية : هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده، وعن علي – مرفوعاً وموقوفاً وفي كليهما ضعف – أنه كتاب الله تعالى.[18]
3-  في قوله تعالى :" الرحمن على العرش استوى"[19]، نجد أن السلف يفسرون الآية بظاهرها الذي يدل عليه اللفظ بلا تكلف ولا تأويل غير سائغ، فيفسرون  الاستواء بمعنى : علا، واستقر.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تفسير الآية : استوى بمعنى : علا[20]،اهـ. ولكن لا يكيفون هذه المعاني، كما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى:" الرحمن على العرش استوى" كيف استوى ؟ قال : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق.[21] أما أهل التعطيل – كالجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهما – فقد فسروا هذا الاستواء بالاستيلاء وصرفوه عن معناه اللغوي الحقيقي، فيقولون: معنى "استوى على العرش " أي استولى عليه. [22] فهنا وقع اختلاف في التفسير كما هو واضح.
4-  ومثال آخر في قوله تعالى :" وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة"[23] اختلف في تفسيرها، فقال ابن كثير في قوله تعالى:"إلى ربها ناظرة" أي : تراه عياناً كما رواه البخاري في صحيحه :" إنكم سترون ربكم عياناً"، ثم ذكر إجماع السلف من الصحابة والتابعين على هذا المعنى[24]،  في حين يفسر المعتزلة النظر إلى الله – كما هو ظاهر النص – بالرجاء والتوقع للنعمة والكرامة [25]، فهذا اختلاف في تفسير هذه الآية مرده إلى التفسير بالرأي عند أحد الفريقين.

فهذه أربعة نماذج من الاختلاف في التفسير، تبين وتؤكد لنا أن هذا الاختلاف حقيقةٌ لا مرية فيها، ولا شك أن مثل هذا الاختلاف قد يوهم البعض بوجود التناقض الذي قد يزعزع الثقة بكثير من التفسير،  ولقد حان الأوان لأن نحاول سبر أسباب هذا الاختلاف بغية الوقوف على حقيقته؛ أهو اختلاف تنوع غير متعارض أم اختلاف تعارض يناقض بعضه بعضاً؟ وما تأثير ذلك كله على فهمنا وثقتنا بكتاب الله عز وجل؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في المبحث التالي إن شاء الله.


المبحث الثاني : الاختلاف في التفسير :

إن أسباب الاختلاف في تفسير القرآن الكريم متنوعة وكثيرة، وعند النظر في النماذج الأربعة المتقدمة يمكن أن نلاحظ أن النموذجين الأوليين يعرضان أقوالاً متعددة في تفسير الآية ولكن مردّ هذه الأقوال كلها إلى النقل، في حين أن النموذجين الأخيرين يحملان نوعاً آخر من التفسير المختلف فيه مرده إلى العقل أو الرأي، وقد أرجع  شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أسباب الاختلاف في التفسير إلى أمرين اثنين، فقال :"الاختلاف في التفسير على نوعين : منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يُعلم بغير ذلك، إذ العلم إما نقل مصدَّق، وإما استدلال محقَّق"[26] وعند التأمل في النماذج المعروضة آنفاً يمكن ملاحظة أن مستند الاختلاف في النموذجين الأوليين هو النقل مثلاً، في حين أن النموذجين الأخيرين يعرضان للنوع الثاني من الاختلاف المستند على الرأي والاستدلال، وبكلام آخر نقول أسباب الاختلاف تتباين باعتبار التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، وإن فهم هذا التباين كما سنعرض إن شاء الله يعين على تصور حقيقة هذا الاختلاف وأثره على التفسير.

المطلب الأول : الاختلاف الواقع في التفسير بالمأثور :

إن مرد الاختلاف في التفسير بالمأثور هو النقل، وعلى هذا فإن مظاهر الاختلاف ها هنا هو تعدد المنقول وعدم اتفاقه في التعبير عن المراد بالآية أو اللفظ القرآني، بحيث تجد أن اللفظ القرآني الواحد أو الآية قد أُثر عنهما كثيرٌ من الأقوال التي يبدو التعارض فيها ظاهراً، ولكن بالتمحيص والتدقيق في هذه المأثورات نجد أن الخلاف فيها راجع إلى عدة أسباب يمكن تصنيفها على النحو الذي بينه شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي نعرض له فيما يلي :

الصنف الأول: قد يرد اللفظ القرآني فيعبر عنه كل واحد من السلف بعبارة غير عبارة صاحبه، وهذه العبارة تدل على معنى في المسمى غير المعنى الذي تدل عليه عبارة الآخر، وهذان المعنيان موجودان في المسمى الواحد الذي يفسرانه.[27]
وبيان ذلك أن المسمى الواحد تجتمع فيه عدة معاني أو صفات ولا يعني ذلك تعدد ذواتها، بل الذات واحدة وليس هناك أي تعارض بين التعبير عن هذه الذات بمعنى أو بآخر طالما أن المعنيين متحققان فيها، ومثال ذلك يوم القيامة، فالمسمى واحد ولكن قد يُعبر عنه بمعان مختلفة كلها متحققة في هذا المسمى كقولنا : يوم الدين ويوم الحشر ويوم التغابن، فكل من هذه التعبيرات تدل على مسمى واحد ولكن ذكر معنى مختلف في الأول عن الثاني وفي الثاني عن الثالث، وهذا ليس اختلافاً حقيقاً كما سنقرر إن شاء الله.
وكذلك عندما نتأمل قوله تعالى :" ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها" [28]، فإن المدعو – وهو الله تعالى – مسمى واحد ولكن لما كانت أسماؤه الحسنى متعددة وكان لازم كل اسم من أسمائه أن يدل على الذات المسماة ويدل على الصفة المتضمنة، كان دعاء العبد ربه باسمه العليم أو القدير أو السميع سائغاً، فكلٌ من هذه الأسماء يدل على ذات الله عز وجل ويدل – باللزوم – على معنى زائد لا يدل عليه الاسم الآخر؛ فاسم العليم يدل على الله وعلى معنى آخر هو العلم، واسم القدير يدل على ذات الله وعلى معنى غير الذي دل عليه اسم العليم ألا وهو معنى أو صفة القدرة، وهكذا. وهنا يقول ابن تيمية :" فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عُرف مسمى هذا الاسم"[29]، ثم يقول :"إذا عُرف هذا، فالسلف كثيراً ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول : أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب ، والقدوس هو الغفور والرحيم، أي أن المسمى واحد لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة"[30]
فإذا رجعنا إلى  المثال الثاني من أمثلة الاختلاف التي أوردناها سابقاً حيث تعددت الآثار في تفسير " الصراط المستقيم" فقال بعضهم هو الإسلام وقال بعضهم هو القرآن الكريم، فهذان القولان وإن كان ظاهرهما الاختلاف والتعارض ألا إنهما في الحقيقة متفقان؛ لأن دين الإسلام واتباع القرآن شيء واحد، وإنما نبه كل منهما على وصف غير الوصف الآخر مع اتفاق المسمى وهو هنا " الصراط المستقيم"، قال ابن تيمية :" وكذلك قول من قال : هو – أي الصراط المستقيم – السنة والجماعة وقول من قال هو طريق العبودية وقول من قال هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها"[31]
ومن هذا يتبين لنا أن الاختلاف الذي مرده إلى هذا الصنف ليس اختلاف تضاد كما يتوهم البعض بل هو اختلاف تنوع لا تعارض فيه.

الصنف الثاني : قد يرد اللفظ القرآني ويكون اسماً عاماً فيفسر كل من المفسرين هذا الاسم العام بذكر بعض أنواعه لينبه المستمع إليه على سبيل التمثيل لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه.[32]
والحقيقة أن هذا الصنف قد تندرج تحته أصناف أخرى نمثل لها فيما يلي :
1-  ذكر بعض أنواع العام على سبيل المثال : فقد يصعب أحياناً تعريف العام بالحد المطلق فيلجأ المفسر إلى التمثيل لهذا العام بذكر بعض أنواعه، وخذ مثلاً ما أُثر في تفسير قوله تعالى:" ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات"[33]،حيث جاء فيه أن الظالم لنفسه أصحاب المشئمة، والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات السابقون، وقيل: الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به والسابق التالي للقرآن العالم به ويعمل به، وقيل: الظالم الغافل عن الصلاة فيفوته الوقت والجماعة، والمقتصد لا يفوته الوقت ولكن تفوته الجماعة، والسابق يحافظ على الوقت والجماعة، وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن والمقتصد من يدخل المسجد بعد تأذين المؤذن، والظالم من يدخل بعد إقامة الصلاة، وقيل غير ذلك [34] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع جميع الواجبات والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات، .. ثم إن كلاً منهم – أي المفسرين – يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات ( كما تقدم فيما نقلناه عن القرطبي [35]) ... فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره"[36] قلت: وإذا نظرنا إلى النموذج الأول من نماذج الاختلاف في التفسير التي ذكرناها آنفاُ وجدنا الاختلاف فيها من هذا النوع، حيث كان تعدد الأقوال بذكر أنواع من النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل على سبيل التمثيل.
2-  تعدد أسباب النزول: فمن المعروف مثلاً أن بعض الآيات قد يُنقل أكثر من سبب نزول فيها، وإن هذا التعدد والاختلاف يُحمل على أن كل سبب يمثل فرداً من أفراد الحكم العام للآية، ومثال ذلك سبب نزول آية اللعان " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه من الصادقين" إلى قوله تعالى :"إن كان من الصادقين"[37]، فقد ورد بطريق صحيح عند البخاري أن الآية نزلت في هلال بن أمية حين قذف امرأته، وفي طريق صحيحة أخرى عنده أيضاً أنها نزلت في عويمر العجلاني[38]، فهذا الاختلاف الظاهري ليس اختلافاً حقيقياً وإنما هو من قبيل التمثيل للعام ببعض أفراده، قال ابن تيمية:" وإذا عرف هذا فقول أحدهم : نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر : نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما.[39]
ومرة أخرى نقول إن هذا الاختلاف في حقيقته ليس اختلاف تعارض وتضاد وإنما هو من نوع اختلاف التنوع والتعدد أيضاً.

الصنف الثالث: أمورٌ متعلقة باللفظ نفسه، مما يؤدي إلى تنازع أو تعدد الأقوال في كشف معناه. وهذا الصنف تندرج تحته عدة أنواع بحسب ما يتعلق باللفظ، ومن ذلك ما يلي:
1-  احتمال اللفظ لأكثر من معنى: كما يحصل بسبب الاشتراك اللفظي ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:" فرّت من قسورة"[40]، فكلمة قسورة قيل هو الأسد، وقيل هو الرامي، وقيل الصائد[41]، وكلها معانٍ محتملة للفظ الواحد، فذكر كل من المفسرين واحداً منها يؤدي إلى التنازع في تفسير اللفظ، لا سيما أن المعاني المختلفة للفظ المشترك قد لا تكون قريبة من بعضها البعض بحيث يقع نوع من التضاد والتعارض الحقيقي بين هذه التفاسير. ومن المفيد التنبيه إلى أن كل هذه المعاني قد تكون مرادة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم إذا تكرر وقوع اللفظ كما ذكر ابن تيمية رحمه الله،[42]بمعنى أن أحد المعاني يكون هو المراد في موضع بينما يكون المعنى الآخر هو المراد في الموضع الآخر وهكذا، لا أنها كلها مرادة في نفس الموضع.
2-  وجود ألفاظ مقاربة لمعنى اللفظ القرآني:  بحيث يعبِّر كل واحد من المفسرين عن هذا اللفظ القرآني بأحد هذه الألفاظ المتقاربة [43]، وهذا قد يفضي إلى توهم الاختلاف في التفسير بينما هو في الحقيقة مجرد تباين في التعبير عن المعنى القريب للفظ، وحيث إن اللفظ القريب لا يطابق اللفظ المفسَّر تمام المطابقة في المعنى ساغ أن يعبَّر عنه بألفاظ مختلفة طالما كان كل منها يحمل قدراً من المعنى الموافق لمعنى اللفظ المفسَّر، ومثال ذلك تفسير كلمة أوحينا في قوله تعالى:" أوحينا إليك" [44]، فمنهم من يفسر الوحي بمعنى : الإعلام، أو يقول غيره : أوحينا أي أنزلنا، فهذا كله – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – تقريب لا تحقيق، فإن الوحي إعلام سريع خفي[45]. وكذلك في قوله تعالى:"يوم تمور السماء موراً"[46] جاء في تفسيرها : تتحرك تحريكاً، وتدور دوراً، وتحركها لأمر الله، وموج بعضها في بعض[47]،وهذه الألفاظ كلها مقاربة لمعنى المور وهو الجريان السريع[48]، وقد يظن البعض أن هذا اختلاف وليس هو اختلاف حقيقي كما هو ظاهر.
3-  التضمين: وهو من أسباب  الاختلاف في التفسير حيث إنه من المعلوم أن العرب تضمِّن الفعل معنى فعلاً آخر وتعديه تعديته، ويكون هذا التضمين من خلال الحروف، فمن لم يدرك هذا يعتقد خطأً أن بعض هذه الحروف قد يقوم بعضها الآخر في سياق الآية، فإذا نظرت إلى قوله تعالى:" عيناً يشرب بها عباد الله "[49] وجدت من يقول أن معنى "بها" أي " منها" ويظن أن حرف "من" يقوم مقام حرف الباء في المعنى، وهذا غير صحيح، لأن فعل شرب قد ضُمِّن معنى روي ولذلك عداه بالباء[50] ليكون المعنى : يشرب منها ويرتوي بها. وواضح أن هذا الاختلاف في التفسير ناجم عن جهل في اللغة وأساليب العرب في التعبير.
4-  اختلاف القراءات : فقد تختلف القراءتان في لفظ قرآني فيفسر كل واحد اللفظ في كل قراءة بمعناه فينتج الاختلاف أيضاً، ومثال ذلك قوله تعالى :" لقالوا إنما سُكِّرت أبصارنا بل نحن قومٌ مسحورون"[51]، فقد قُرأت بتشديد الكاف "سُكِّرَت" وفي قراءة مجاهد والحسن : "سُكِرَت" بالتخفيف[52]، ففسرت الأولى بالسد وفسرت القراءة الثانية بالسحر، فالاختلاف في التفسير ناشئ عن تعدد القراءات، ويمكن اعتبار هذا أيضاً من اختلاف التنوع لا من اختلاف التعارض والتضاد.
وهكذا نكون قد استعرضنا ثلاثة أصناف من الاختلاف في التفسير الذي مستنده النقل، وأنت ترى أن مآل هذه الاختلافات في الغالب إلى التنوع لا إلى التضاد أو التعارض، وهذه هي السمة العامة لتفسير السلف لا سيما الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين فالاختلاف الحقيقي في التفسير قليل عندهم عند النظر والتحقيق، قال ابن تيمية رحمه الله:" الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد"[53]، قلت: ولا غرابة في ذلك لأن الأحكام المختَلف فيها مسلكها الاجتهاد فيتصور وقوع الاختلاف في الفهم والاستنباط، أما التفسير فمعلوم مدى تورع السلف عن القول فيه بالرأي وإنما هو القول بالمأثور أو التعبير حسب أصول اللغة وهذان لا يمكن أن يؤديا إلى تناقض أو تعارض حقيقي في الغالب كما رأينا.

المطلب الثاني : الاختلاف الواقع في التفسير بالرأي :

إن وقوع الاختلاف في هذا النوع من التفسير أمر مستفيض، ولقد قدمت نموذجين لذلك آنفاً، وسأحاول ها هنا استعراض الأسباب المؤدية إلى وقوع هذا النوع، وهو الذي أشار إليه شيخ الإسلام حيث قال :" وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل" [54]، وهذا الاستدلال يقوم على الاجتهاد والتفكر والاستنباط ويكون مظهر الاختلاف ها هنا هو توصل المفسرين إلى آراء متباينة في معاني ودلالات النصوص القرآنية، ويمكن رد معظم الأخطاء الاجتهادية المفضية إلى هذا الاختلاف إلى جهتين اثنتين كما سأبين فيما يلي:

الصنف الأول : اعتقاد معنى ما وحمل ألفاظ القرآن الكريم عليه:
إن فريقاً من الذين عمدوا إلى آيات القرآن الكريم يفسرونها باجتهاداتهم قد أسرتهم اعتقادات ومعان فسلطوها على ألفاظ القرآن الكريم مراعاةً لما اعتقدوه ولم ينظروا إلى ما تستحقه الألفاظ القرآنية من الدلالة والبيان. وإن لازم اتباع هذا المنهج تعددُ التفاسير بتعدد الاعتقادات والأهواء والمذاهب الفاسدة، وإذا عُلم هذا لم يعد للتعجب من اختلاف التفاسير بالرأي مكان، بل كان محل العجب فيما لو اتفقت هذه التفاسير الهوائية في شيئ البتة! قال الشيخ الزرقاني رحمه الله في سياق كلامه على التفسير بالرأي المذموم :" ومنها - أي الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي – حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة "[55] ، وقال شيخ الإسلام رحمه الله :" والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.."[56]، وإذا أمعنّا النظر في هؤلاء وجدنا أن هذا الصنف من الاختلاف في التفسير ملازمٌ للبدع والأهواء؛ فما من فرقة مبتدعة أو صاحبة هوى إلا وحاولت ليَّ أعناق آيات القرآن الكريم إما لتستدل زوراً على صحة مذهبها، أو لتدفع - تلبيساً منها - ظواهر الآيات التي تنقض أصول بدعتهم. وبناء عليه فإن الاختلاف في التفسير عند هؤلاء ناجم عن أمرين بيَّنهما ابن تيمية رحمه الله[57] وهما:
1-     سلب اللفظ القرآني مما يدل عليه ويراد به : ومثال ذلك ما تقدم معنا في النموذج الثالث والرابع من نماذج الاختلاف في التفسير[58]، حيث عمد المعطلة إلى سلب لفظ "استوى" ما يدل عليه من العلو وأوّلوه بالاستيلاء زوراً وبهتاناً انتصاراً لمذهبهم الفاسد في الصفات، وعمد المعتزلة إلى سلب لفظ " ناظرة " مما تدل عليه من الرؤية الحقيقية بالبصر كما هو مذهب أهل الحق فراراً من مصادمة ظاهر الآية ومعناها الصحيح لمذهبهم في عدم جواز الرؤية في الآخرة. وإذا عُرف هذا تبين أنه كلما جاء صاحب مذهب وعقيدة فاسدة ليفسر آية من القرآن الكريم خرج لنا برأي وتفسير يوافق هواه وينتصر لرأيه، فيحصل الاختلاف في التفسير وهو هنا اختلاف حقيقي متناقض ومتعارض وليس اختلاف تنوع كالذي مر معنا في التفسير بالمأثور.
2-     تحميل اللفظ القرآني ما لا يدل عليه ولا يراد منه من معاني: وهذا أقبح من سابقه، فإن أصحاب الصنف السابق قد جرّدوا اللفظ القرآني مما يدل عليه وحاولوا أن يتأولوا له معنى قد يكون مستساغاً لغةً بوجهٍ من الوجوه مهما كان متعسفاً، أما أصحاب هذا الصنف فلم يكتفوا بذلك بل تجرأوا على إثبات معانٍ للفظ القرآني لا يدل عليها ولا يمكن أن يدل عليها لا من قريب ولا من بعيد، ولعل أوضح مثال على هذا النوع من الاختلاف ما زعم الباطنية من أنه تفسير لبعض ألفاظ القرآن الكريم ذات الدلالة الظاهرة المحكمة في الأصل، فهم يقولون :" إن (الكعبة) هي النبي صلى الله عليه وسلم، و(الباب) علي، و(الصفا) هو النبي صلى الله عليه وسلم، و(المروة) علي، و(نار إبراهيم) هي غضب النمرود عليه، و(عصا موسى) هي حجته"[59]، وتأمل تفسير قوله تعالى:" إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"[60] يقولون:" وقد قصد الرحمن من ذكر يوسف نفس الرسول وثمرة البتول حسين بن علي بن أبي طالب مشهوداً .. إذ قال حسين لأبيه يؤماً إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم بالإحاطة على الحق لله القديم سُجداً وأن الله قد أراد بالشمس فاطمة وبالقمر محمداً وبالنجوم أئمة الحق في أم الكتاب .."[61]، قلت: إن مثل هذا الكلام الرخيص لا ينتج إلا عن مثل تلك العقول الفارغة والقلوب العفنة، حيث سوغت لأصحابها أنفسهم المقيتة الاجتراء على كلام الله عز وجل بمثل هذه التأويلات التي يسمونها تفسيراً أو علم الباطن كما يزعمون، لأن " الباطنية قوم رفضوا الأخذ بظاهر القرآن وقالوا: للقرآن ظاهر وباطن والمراد منه باطنه دون ظاهره، ويستدلون بقوله تعالى:" فضُرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَله العذاب"[62]"[63]، وإن العجب لا ينقضي من هؤلاء كما ذكر ابن تيمية رحمه الله:" فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالم منها عجبه، فتفسير الرافضة كقولهم :" تبت يدا أبي لهب وتب"[64] هما أبو بكر وعمر، ...وأعجب من ذلك قول بعضهم : "والتين" أبو بكر، "والزيتون" عمر، "وطور سينين" عثمان، "وهذا البلد الأمين"[65] علي، وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال"[66].
والخلاصة في هذا الصنف أن من أعظم أسبابه المعتقدات والبدع الباطلة التي حملت أصحابها على تحريف الكلم عن مواضعه ونسبة معانٍ غير مرادة لله عز وجل إلى كلامه وتسمية ذلك تفسيراً، وإن الحقيقة البارزة في كل صاحب هوى أن هواه يهوي به في أودية الجهل والتيه فتسوغ له الافتئات على كلام الله تعالى عافانا الله من ذلك.

الصنف الثاني : تفسير القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده المتكلم بالعربية من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل وعليه والمخاطب به[67] :
ومصدر الخلل عند هؤلاء أنهم نظروا إلى مجرد اللفظ ولم يراعوا سوى ما يمكن أن يكون مراداً للفظ من جهة اللغة دون أن ينتبهوا إلى أن هذا اللفظ هو كلام الرب سبحانه وتعالى وأنه أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خطاب للإنس والجن عامة، وإن عدم مراعاة هذه الاعتبارات قد يفضي إلى تفسير اللفظ القرآني تفسيراً بعيداً عن الصواب، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في سياق الكلام عن أهمية معرفة أسباب التنزيل مثلاً وكيف أنه ضروري لصيانة فهم القرآن الكريم :" الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل مُوقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النزاع" ثم ذكر ما رواه إبراهيم التميمي قال:" خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة، فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا"[68]. ولعل مراعاة مقتضى الشرع في تفسير القرآن الكريم هي من جملة ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله :" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"[69]

وهكذا نكون قد استعرضنا أهم أسباب الاختلاف في التفسير بالرأي وقد تبين معنا أن هذا الاختلاف – على خلاف ما تقدم في التفسير بالمأثور – يعود في جملته إلى اختلاف التعارض والتضاد، ولربما كان ذلك بسبب الاضطراب في الأهواء والآراء الباعثة على أمثال هذا التفسير.

المطلب الثالث : التحقيق في مسألة الاختلاف التفسير:

يمكننا بناء على ما تقدم أن نقول إن التحقيق في مسألة الاختلاف هو أنه واقعٌ فعلاً وأنه يؤول إلى أحد وجهين؛ أحدهما اختلاف تنوع لا تناقض فيه، والثاني اختلاف حقيقي متعارض بل ومتناقض في بعض الأحيان بحيث لا يمكن الجمع أو التوفيق بين أفراده بأي حال. كما يمكننا القول إن جملة الاختلاف المأثور عن السلف رضوان الله عليهم هو من النوع الأول كما نبه شيخ الإسلام ابن تيمية [70]، في حين أن جملة الاختلاف في التفسير بين أهل الأهواء والبدع هو من النوع الثاني المتعارض المتناقض ولا عجب في ذلك بعد أن رأينا أن مرد هذا الاختلاف إلى الهوى والاجتهاد المذموم.
وإذا عرف ذلك، أصبح سهلاً علينا أن نعلن ثقتنا بأن كتاب الله عز وجل محكمٌ مترابطٌ لا ينقض بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً، وإدراك هذا الأمر سهلٌ يسير على من اتبع منهج التفسير الصحيح سواء أكان نقلاً أثرياً صحيحاً أم اجتهاداً عقلياً صريحاً، وصدق الله تعالى إذ يقول :" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"[71]، وعلى هذا كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام أحمد بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم،أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسٌ عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حَجرة إذ ذكروا آيةً من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول مهلاً يا قوم بهذا أُهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً بل يصدق بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم به فردوه إلى عالمه"[72] ، فمن الواضح في هذا الحديث أن مرد الاختلاف المذموم هو القول على الله تعالى بلا علم، وقد جاء النهي عن ذلك في قوله تعالى:" وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون"[73]، ويمكن تحديد منهج تفسير كتاب الله وفق هذا الحديث برد ما لا نعلم من تفسير كتاب الله إلى من يعلم؛ فإن كان مما للعلماء إليه سبيل رددناه إليهم وإن كان مما استاثر الله تعالى بعلمه توقفنا، وبهذا نسلم من التهجم على مراد الله تعالى ويسلم القرآن من نسبة التعارض إليه زرواً وبهتاناً.


الخاتمة:

إن من توفيق الله عز وجل أن قد ألممنا في هذا البحث الموجز بحقيقة الاختلاف في تفسير القرآن وبأهم أسبابه، وأشير في هذه الخاتمة إلى أهم الفوائد والاستنتاجات من هذا البحث، فأقول وبالله التوفيق:
1-     تبين لنا في هذا البحث أن الاختلاف في التفسير حقيقة واقعة لا مجال لغض الطرف عنها، وأن هذا الاختلاف قد يترتب عليه من المفاسد والشبهات ما يوجب تحرير القول فيه وضبط أسبابه من أجل تفنيد هذه الشبهات ووقاية المسلمين منها
2-      إن من الاختلاف في التفسير ما هو اختلاف بحسب الظاهر وليس اختلافاً حقيقياً بل هو من اختلاف التنوع الذي لا تعارض فيه، وهذا لا ضرر من وقوعه - بل ربما كان وقوعه مطلوباً من جهة كمال عرض المعاني وتفصيلها وتقريبها للمستمع – ولا يعني هذا أن يتحرى هذا الاختلاف ويطلب لذاته وإنما المعنى أن ما وقع منه اتفاقاً لا يقدح في المفسِّر كما أنه لا يقدح في المفسَّر قطعاً.
3-     إن من الاختلاف في التفسير ما هو اختلاف حقيقي مآله إلى التعارض الذي لا يمكن التوفيق بين أفراده، وإن المتدبر في أسباب هذا الاختلاف يجد أن البدع والأهواء وتحكيم الرأي في النصوص وتقديم العقل على النقل يمثل أهم أسباب هذا الاختلاف، وبالتالي فإنه اختلاف مذمومٌ من جهة الدوافع والوسائل والمآلات، وهذا النوع من الاختلاف يقدح في المفسِّر ولكنه لا يقدح في المفسَّر، بل إن نسبته إلى مراد الله تعالى من كلامه نسبةٌ مدَّعاة.
4-     تبين معنا أيضاً أن تفسير القرآن الكريم لا يسلم من الخطأ بمجرد الاعتماد على ما يسوغ في اللغة، بل لا بد من مراعاة مقتضيات الشرع وأصوله من حيث معرفة أن هذا القرآن الكريم هو كلام الله تعالى فيراعى خصائص المتكلم، وأن هذا القرآن جاء لهداية البشر  فيراعى ما يليق بمقتضيات هذا المقام.
5-     وأخيراً أقول إن من السلبيات المشاهدة في عصرنا الحالي وفرة وانتشار المطبوعات من تفاسير القرآن الكريم المختلفة بين العامة، وهم لا يملكون أدوات التمييز ما بين هذا المطبوع من جهة صحته إن كان نقلاً أو صوابه إن كان عقلاً، وهذا يؤدي إلى بلبلة شديدة في عقول العامة وتشتيت وضياع وربما فقدان الثقة في علم التفسير والمفسَّر بسبب ما يطلعون عليه من تناقض وتعارض وتعدد دون تميز أسبابه وحقيقته، ولذا أرى وأقترح أنه لا بد من اجتماع كلمة أهل العلم وجهودهم على إخراج تفسير للقرآن الكريم يراعي الحد الصحيح الذي يلزم العامي معرفته والإطلاع عليه فيكون متداولاً بين العامة ويوفر في المكتبات ونحوه، في حين تكون طباعة باقي المدونات مقتصرة على الكميات التي تسد حاجة أهل العلم وطلاب العلم ونحوه، وهذا مشاهد وممارس في كل العلوم، فأنت لا ترى في المكتبات العامة كتباً طبية تخاطب العامة بغير ما يناسب حاجاتهم ومستوياتهم وكذا في غيرها من العلوم ونحوه، ولقد كان السلف سباقين في هذا المجال فلم يكونوا يوزعون العلوم هكذا على غير هدى بل كانوا ينظرون في أهلية الطالب لتحمل هذا العلم ، والله أعلم.
ختاماً أسأل الله تعالى القبول والأجر فيما وفقت إليه من صواب والمغفرة والعفو عما زل به القلم، وأسأله تعالى أن يلهمنا ويوفقنا للعمل بما علمنا، وأن يورثنا بذلك علم ما لم نعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.







فهرس الآيات القرآنية

        الآية                                                    الصفحة

"أفلا يتدبرون القرآن أم على".........                           1
"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من"....                             2،18
"الرحمن على العرش"................ .                               6
"اهدنا الصراط المستقيم".............                                  6
"أوحينا إليك"......................                                  13
" تبت يدا أبي ".....................                                  17
"ثم أورثنا الكتاب الذين".............                                   10
"عيناً يشرب بها عباد"...............                                    13
"فرّت من قسورة"..................                                    12
"فضُرب بينهم بسور له".............                                    16
"لقالوا إنما سُكِّرت أبصارنا"..........                                   13
"وأن تقولوا على الله"...............                                    19
"والذين يرمون أزواجهم"............                                    11
"وجوه يومئذ ناضرة"................                                    7
"ولله الأسماء الحسنى"................                                        9
" يا بني إسرائيل"..................                                    6
"يوم تمور السماء"..................                                   13


فهرس الأحاديث النبوية

        الحديث                                                       الصفحة

" اللهم فقهه في الدين وعلمه.."                                   18
"مهلاً يا قوم بهذا أُهلكت الأمم .."                                 19








فهرس الموضوعات

العنوان                                                        الصفحة

مقدمة                                                                                1       
تمهيد                                                                                1
المبحث الأول : وقوع الاختلاف في تفسير القرآن الكريم                                   2
المطلب الأول : معنى الاختلاف في التفسير                                            3
المطلب الثاني : مراتب التفسير                                                          3
أولاً : التفسير بالمأثور                                                     3
ثانياً : التفسير بالرأي                                                       4       
     المطلب الثالث : وقوع الاختلاف في تفسير القرآن الكريم                             6
المبحث الثاني : الاختلاف في التفسير                                                       8
المطلب الأول : الاختلاف الواقع في التفسير بالمأثور                                  8
المطلب الثاني : الاختلاف الواقع في التفسير بالرأي                                    14
المطلب الثالث : التحقيق في مسألة الاختلاف التفسير                                 18
الخاتمة                                                                              19




فهرس المراجع


التعريفات – الجرجاني – تحقيق إبراهيم الأبياري - دار الكتاب العربي- بيروت - 2002
الجامع لأحكام القرآن- الإمام القرطبي- تحقيق عبد الرزاق المهدي - دار الكتاب العربي – بيروت - الطبعة الثانية - 1999
القاموس المحيط – الفيروزآبادي- مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثالثة - 1993
تفسير القرآن العظيم- الحافظ ابن كثير – دار الفتح – الشارقة – الطبعة الأولى -1999
شرح العقيدة الواسطية – الشيخ محمد بن صالح العثيمين – دار الثريا للنشر – الرياض – الطبعة الأولى - 1998
مجموعة الفتاوى – تقي الدين أحمد بن تيمية- دار الجيل – مكتبة العبيكان – الرياض – الطبعة الأولى - 1997
مسند الإمام أحمد – برنامج حاسوبي "موسوعة الحديث الشريف"
المفردات في غريب القرآن – الراغب الأصفهاني – دار المعرفة – بيروت – الطبعة الثالثة - 2001
مناهج المفسرين – د.حسن عبيدو- مقرر الدراسات العليا – الجامعة الأمريكية المفتوحة - واشنطن
مناهل العرفان في علوم القرآن – الشيخ عبد العظيم الزرقاني- المكتبة العصرية – بيروت - 2001
الموافقات في أصول الأحكام  – الحافظ أبو إسحاق الشاطبي – دار الفكر










[1] سورة محمد - 24
[2] سورة النساء - 82
[3] القاموس المحيط - الفيروزآبادي
[4]القاموس المحيط – الفيروزآبادي  
[5] التعريفات – الجرجاني - 56
[6] مناهل العرفان – الزرقاني -  7/2
[7] انظر غير مأمور مناهل العرفان 15/2، ومقدمة تفسير ابن كثير 37-41/1 طبعة دار الفتح،ومقدمة الجامع لأحكام القرآن  للقرطبي، ولمحات في علوم القرآن ص260 للصباغ.
[8] تفسير القرآن العظيم -  41/1 ( من المقدمة لابن كثير)
[9] انظر غير مأمور مقدمة تفسير ابن كثير 41/1، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 198-199/13
[10] القاموس المحيط - الفيروزآبادي
[11] مناهل العرقان – الزرقاني – 48/2
[12] القاموس المحيط – الفيروزآبادي
[13] مناهل العرفان – 48/2
[14] مناهل العرفان – 48-49/2 بتصرف
[15] سورة البقرة - 40
[16] تفسير القرآن العظيم – 330/1
[17] سورة الفاتحة - 6
[18] تفسير القرآن العظيم – 200-202 بتصرف يسير جداً.
[19] سورة طه - 5
[20] شرح العقيدة الواسطية – ابن عثيمين-  317
[21] مجموع الفتاوى – ابن تيمية – 28/5
[22] شرح العقيدة الواسطية – ابن عثيمين- 318
[23] سورة القيامة – 22-23
[24] تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 363-364/8
[25] مناهج المفسرين – حسن عبيدو - 156
[26] مجموع الفتاوى – ابن تيمية – 185 /13
[27] مجموع الفتاوى – ابن تيمية – 178/ 13
[28] سورة الأعراف - 180
[29] مجموع الفتاوى – 179/13
[30] المرجع السابق
[31] المرجع السابق
[32] مجموع الفتاوى – ابن تيمية – 180/13
[33] سورة فاطر - 32
[34] الجامع لأحكام القرآن القرطبي – 302-303/ 14 بتصرف
[35] هذا من كلامي
[36] مجموع الفتاوى – 180-181/13
[37] سورة النور – 6-9
[38] مناهل العرفان – الزرقاني – 115-116/1
[39] مجموع الفتاوى – ابن تيمية -  182/13
[40] سورة المدثر - 51
[41] المفردات – الأصفهاني - 404
[42] مجموع الفتاوى – 182/13
[43] وإنما قلنا ألفاظ مقاربة لا مرادفة لقلة وقوع الترادف الحقيقي في اللغة
[44] سورة النساء - 163
[45] مجموع الفتاوى – ابن تيمية – 183/13
[46] سورة الطور - 9
[47] انظر هذه الآثار في تفسير ابن كثير – 573/7
[48] المفردات – الأصفهاني - 480
[49] سورة الإنسان - 6
[50] تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 374/ 8  بتصرف
[51] سورة الحجر - 15
[52] الجامع لحكام القرآن – القرطبي – 11/10
[53] مجموع الفتاوى – 178/13
[54] مجموع الفتاوى – 190/13
[55] مناهل العرفان – الزرقاني – 49/2
[56] مجموع الفتاوى – 192/13
[57] راجع مجموع الفتاوى – 190- 192 / 13
[58] راجع المطلب الثالث من المبحث الأول
[59] مناهل العرفان – 70/2
[60] سورة يوسف - 4
[61] مناهج المفسرين – حسن عبيدو ، والمنقول من مفتاح الأبواب
[62] سورة الحديد - 13
[63] مناهل العرفان – 70/2
[64] سورة المسد - 1
[65] الآيات من سورة التين – 1-3
[66] مجموع الفتاوى – 192-193/13
[67] مجموع الفتاوى – 191/13
[68] الموافقات – الشاطبي 202/3
[69] مسند الإمام أحمد
[70] مجموع الفتاوى – 205/13
[71] سورة النساء - 82
[72] مسند الإمام أحمد – المكثرين من الصحابة - 6415
[73] سورة الأعراف - 33

0 تعليقات:

إرسال تعليق