2014/11/20

::. الطور الثالث من أطوار الاجتهاد الفقهي .::

نموذج للمناظرات التي كان جرت بين :الامام الشافعي" و "محمد بن الحسن" في هذا الدور :

  روى الفخر الرازي: "أن محمد بن الحسن صاحبَ أبي حنيفة قال للشافعي يوماً: بلغني أنك تخالفنا في مسائل الغصب قال الشافعي: أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة، قال: فناظرني... قال محمد: ما تقول في رجل غصب ساحة وبني عليها جدارًا وأنفق عليها ألف دينار فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟


فقال الشافعي: أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي - وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه.

قال محمد بن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحاً من خشب فأدخله في سفينة ووصلت السفينة إلى لُجَّةِ البحر فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ قال: لا، قال (محمد): الله أكبر تركت قولك، ثم قال (محمد): ما تقول في رجل غصب خيطًا من إبريسم فمزق بطنه فخاط بذلك الابرسيم تلك لجراحة فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ قال: لا، قال (محمد): الله أكبر تركت قولك وقال أصحابه أيضا تركت قولك.

قال الشافعي: فقلت لا تعجلوا أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه ثم أراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر أمباح له ذلك أم محرم عليه؟ قال: يحرم عليه. قلت: أرأيت لو كان الخيط خيط نفسه وأراد أن ينزعه من بطنه ويقتل نفسه أمباح له ذلك أم محرم؟ قال: بل محرم، قلت: أرأيت لو جاء مالك الساحة وأراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟ قال: بل يباح قال الشافعي: فكيف تقيس مباحاً على محرم؟ قال محمد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ قلت: آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل ثم أقول له: أنزل اللوح وادفعه إليه، فقال محمد بن الحسن: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه، ثم قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادة أشراف خطباء فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له، ماذا تعمل؟ قل محمد: أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل: قال الشافعي: أنشدك الله أيُّ هذين أعظم ضرراً: أن تقلع الساحة وتردها إلى مالكها أو تحكم برق هؤلاء الأولاد؟ فانقطع محمد بن الحسن.

هذه المحاورة بين هذين أنموذج حيٌّ لما كان يجري من مجالس علمية تُمتَحنُ فيها أصول كلِّ إمام بما يقرر، من جزئيات، فهذا الإمام الشافعي - رضي الله عنه - يقول لمحمد بن الحسن(.. فكيف تقيس مباحاً على محرم) ويقول أيضاً لما قال له محمد بن الحسن - رحمه الله - فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ وأجابه: فقال محمد بن الحسن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) أي وأمر صاحب السفينة بتسييرها إلى الساحل لنزع اللوح المغصوب ضرر عليه فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه فبين أن هذا الحكم مستثنى من قاعدة: ((لا ضرر ولا ضرار)) ثم أجرى موازنة بين مفسدة استرقاق الأحرار العشرة الذين ولدتهم الزنجية المغصوبة وبين مفسدة هدم الجدار، المقام على الأرض المغصوبة وأن المفسدة الأولى أعظم من المفسدة الثانية باتفاق لهذا انقطع محمد بن الحسن - رحمهما الله -.

هذه المناظرة واحدة من عديد المناظرات التي تجري بين العلماء في ذلك العصر وإن حكاها كل جماعة بما يتفق وعصبيته المذهبية، وسعت دائرة الاجتهاد الفقهي والحركة الفقهية، وتكون منها آراء قانونية لها قيمتها، وحملت الكثيرين من الفقهاء على أن يتسلحوا بأسلحة مناظريهم فالقياسيون يتسلحون بالحديث، والمحدثون يتسلحون بالرأي وقربت كثيراً من أوجه النظر المتباعدة وربما كان أقرب مثال لذلك الشافعي ومحمد بن الحسن في النموذج المتقدم آنفاٍِ فكلاهما اطلع على الناحيتين وتسلح بالسلاحين. هذا ولم يقتصر الأمر على المناظرات الشفوية بل تجاوزها إلى المكاتبة فهذا الليث بن سعد يكتب من مصر إلى مالك بالمدينة يجادله في حجية علم أهل المدينة ويرد عليه مالك.

 ومع اتساع الدولة وكثرة الوقائع ضمن الدولة الإسلامية في هذا العهد شعوباً وأممًا مختلفة في الدين والحضارات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية وطرق المعيشة وفى أنواع كثيرة من المعاملات؛ ففي العراق سادت العادات الفارسية والقبطية وغيرها، فمن دخل في الإسلام عرض ما قد كان عليه قبل الإسلام على أبي حنيفة مثلاً وفى الشام عرضت الأوضاع الرومانية ونظم القضاء الروماني وقضاياه على الأوزاعي  وفي مصر عرضت العادات المصرية والرومانية والإغريقية على الليث بن سعد.

وقد عمل هؤلاء الفقهاء وغيرهم على تمحيص ما عرض عليهم فأقروا بعضه وعدلوا بعضه وأنكروا بعضه على ضوء ما عندهم من علم شرعي حتى غدت الحياة العامة في كل إقليم ومصر مصطبغة بالصبغة الإسلامية.

ومما ساعد على تقريب وجهات النظر بين المجتهدين في هذا العصر أن كل قطر من الأقطار المفتوحة وُجدت فيه أحكام لم تكن موجودة في غيره نظراً لاختلاف البيئات والفوارق الإقليمية فلقد أحس العلماء في كل إقليم بحاجتهم إلى التعرف على ما في الإقليم الآخر من اجتهادات فقهية فنشأت الرحلات العلمية فالشافعي رحل إلى المدينة والعراق ومصر. وربيعة الرأي رحل إلى العراق، ورحل محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى المدينة ورحل أحمد بن حنبل إلى الحجاز وإلى اليمن فآتت هذه الرحلات ثمراتها في إزالة كثيرٍ من أوجه الخلاف وأشعرت كلاً بحاجته إلى ما عند غيره من العلم والفقه.

      ومع نمو الحركة العلمية كان بدء هذه الحركة في أواخر الدور السابق، لكنها في هذا الدور نمت نمواً عظيماً بوصول        المدينات القديمة إلى رؤوس المفكرين من علماء المسلمين وقد ساعد على وصول هذه المدنيات عوامل أهمهما:

أ - ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى لغة العرب: ولم تبلغ الترجمة شأوها إلا في عهد المأمون بن الرشد في القرن الثالث من الهجرة إذ كان مغرماً بالآداب اليونانية وبآراء أرسططاليس على وجه خاص ولقد انتشرت هذه الكتب انتشاراً هائلاً فكانت العاملَ المهم في تكوين معلومات أهل الكلام.

ب - الموالي فقد دخلوا في الإسلام بأعداد عظيمة من الفرس والروم والمصريين. فمنهم من أُسِرَ صغيراً وتربى تحت كنف سادته من المسلمين فورثوا ما عندهم من العلوم الإسلامية التي أساسها الكتاب والسنة فحملوا عنهم شيئاً كثيرا وكان منهم القراء الكبار والمحدثون بجانب إخوانهم من العرب.

ومنهم من دخل في الإسلام وهو كبير فكان من نتيجة ذلك تلاحم الأفكار وإنضاج العقول.


مقتبس من "أطوار الاجتهاد الفقهي" ج:15 ص: 131-134

4 تعليقات:

  • أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
    Unknown says:
    الأربعاء, أبريل 05, 2017

    أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

  • أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
    Unknown says:
    الأربعاء, أبريل 05, 2017

    أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

  • أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
    Unknown says:
    الأربعاء, أبريل 05, 2017

    أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

  • أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
    Unknown says:
    الأربعاء, أبريل 05, 2017

    أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

إرسال تعليق