2011/05/21

أسباب وقوع الاختلاف بين الفقهاء لعلي مختار محفوظ


أسباب وقوع الاختلاف بين الفقهاء
في بقية العصور
للشيخ علي مختار محفوظ

بسم الله الرحمن الرحيم


  و قد عدد بعض أهل العلم (1) أهم أسباب الاختلاف بين الفقهاء عموما في كل العصور وحصرها في سبع نقاط هي كما يلي:




 1       اختلاف معاني الألفاظ في اللغة العربية:

 واللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، ولغة الحديث النبوي الشريف، فالنصوص الشرعية محتملة لأكثر من معنى واحد, ولا شك أن علماء اللغة أنفسهم يختلفون في وضع الألفاظ ودلالتها، إما بسبب كون اللفظ مجملا أو مشتركاً أو متردداً بين العموم والخصوص، أو بين الحقيقة والمجاز، إلى غير ذلك من خلاف، وهذا ما انتقل بدوره إلى علماء الفقه، وأدى بالتالي إلى اختلاف الأحكام, ومثال على ذلك قول الله عز وجل (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ) البقرة:  228, فمن العرب من يسمي الحيض قرءاً, ومنهم من يسمي الطهر قرءاً ومنهم من يجمعهما جميعاً, فيسمي الطهر مع الحيض قرءاً.

 2       اختلاف المدارك والأفهام والعقول:

إذ إن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية، وهذا موجود في عصر الصحابة _رضي الله عنهم _ ومن بعدهم، وقد سبق الإشارة إلى مثال صلاة العصر في بني قريظة أي حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ :(لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ...) أخرجه البخاري ومسلم(2).

 3       الاختلاف في فهم المراد من النص الظني أي غير القطعي:

 إذ إن المعنى ربما كان خافياً أو محتملاً للتأويل, واعلم أن الله عز وجل: لم يجعل جميع أدلة الأحكام الشرعية قطعية, بل جعل أكثرها ظنية الدلالة؛ للتوسعة على المكلفين, ولإفساح المجال للعقول لتجتهد وتستنبط من تلك الأدلة؛ وفي هذا احترام وتقدير للعقول ومراعاة تفاوتها.

 4       الاختلاف في حجية بعض مصادر التشريع:

وذلك عند عدم وجود النص القاطع من كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهناك أدلة اختلفوا في مدى الاعتماد عليها:كالاستحسان، والمصالح المرسلة، وقول الصحابي، وعمل أهل المدينة، إلى غير ذلك مما هو مبسوط في كتب أصول الفقه.

 5                 الاختلاف في ثبوت النص وعدمه:

          وذلك تبعا للاختلاف في توثيق الرواة وتضعيفهم، أو الاختلاف حول تضعيف حديث أو تقويته، أو وضع شروط لقبول مراسيل التابعين أو خبر الآحاد ونحو ذلك.   وقد يكون هذا الاختلاف ناتجًا عن بحثٍ ودراسة، كما هو شأن العلماء، فمن قوَّى حديثًا عمل به، ومن ضعَّف هذا الحديث لم يعمل به.

وكمثالٍ على ذلكالاختلاف في حكم تغطية المرأة لوجهها وكفيها، بناءً على اختلافهم في صحة حديث عائشة _رضي الله عنها_، والذي رواه أبو داود(3) وغيره:" أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق (أي شفافة تُظهر ملامح الجسم)، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :(يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا ) وأشار إلى وجهه وكفيه. أخرجه أبو داود .    فمن صحح هذا الحديث _مع غيره من الأدلة_ قال بجواز كشف المرأة لوجهها ويديها، وهم جمع كبير من العلماء
 ومن قال بضعفه _مع وجود أدلةٍ أخرى_ قال بوجوب تغطية المرأة لوجهها ويديها، وقد قال به كثير من العلماء قديمًا وحديثًا.
 
 6                 الاختلاف في طرق الجمع والترجيح بين النصوص أو الأدلة المتعارضة:

           وعلى فرض الاتفاق بين العلماء على ثبوت النص وفهمه, يأتي اعتراض آخر: وهو سلامة النص من معارض راجح في الظاهر من النصوص الأخرى, وهنا يقع الاختلاف بين طرق الجمع بين النصوص, أو ترجيح بعضها على بعض.
     
وللفائدة فإنَّه إذا تعارض دليلان فهناك عدة طرق للجمع بينهما: كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ ... وغيرها، فإذا تعرض دليلان وكان العالمان غير متفقين على كيفية الجمع بينهما فسيختلف الحكم الشرعي، كالاختلاف في حكم استقبال القبلة ببول أو غائط، إذ ورد فيها أدلة متعارضة:

فالمثال على ذلك حديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرقوا أو غربوا) فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة، فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله . أخرجه أبو داود(4) .

ويتعارض مع حديث  عبد الله بن عمر قال: "ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام"، أخرجه البخاري ومسلم(5). 

فاختلف الفقهاء إلى أقوال:
القول الأول: الجمع بين الحديثين: فحديث أبي أيوب يُحمل على أنَّ النهي إن كان في الصحاري وليس هناك بنيان بينه وبين القبلة، أمَّا حديث عبد الله بن عمر فهو جواز استقبال القبلة أو استدبارها إذا كان في بنيان، ولعله هو الأقرب للصحة والله أعلم.
الثاني: ترجيح العمل بحديث أبي أيوب بناءً على أنَّ المنع والتحريم مُقدَّم على الإباحة عند التعارض.

الثالث: ترجيح العمل بحديث عبد الله بن عمر بناءً على أَّنه عند التعارض ووجود الشك يبقى الحكم على الأصل وهو عدم التحريم.

 7                 الاختلاف في القواعد والمبادئ الأصولية:
           وهذا وارد حيث إن تلك القواعد من وضع العلماء، ولهم فيها اجتهادات علميه وأسباب موضوعية، ينتج عنها تعدد آرائهم فيها، مما يستدعي اختلاف النتائج المبنية عليها .

 
__________

الإحالات °الهوامش°:
1          راجع كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام  لشيخ الإسلام ابن تيمية ص24 ط مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة د. ت وبتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي, وراجع كتاب أيضا دراسات في الاختلافات الفقهية وهو للأستاذ الدكتور محمد أبو الفتح البيانوني ط ثالثة 1405هـ=1985م ط دار السلام القاهرة من ص 19 ــ ص 36   , وانظر في كتاب  أسباب اختلاف الفقهاء للدكتور عبد الله التركي من ص 13 ـ 22.

 2       حديث بني قريظة: رواه الإمام البخاري في صلاة الخوف(946) وفي المغازي(4119)ومسلم في الجهاد (1770) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ :"  لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ "

 3       حديث أسماء رواه أبو داود(4104)، ورواه غيره، وضعفه بعض العلماء وصححه بعضهم، منهم الألباني في صحيح أبي داود.
 4       حديث أبي أيوب: متفق عليه، رواه البخاري في أبواب القبلة باب قبلة أهل المدينة...(386)،  ورواه مسلم في الطهارة باب الاستطابة(264).ورواه أبو داود في الطهارة باب كراهة استقبال القبلة(9)، ورواه الترمذي فيه في النهي عن استقبال القبلة ..(8).
 5       حديث ابن عمر متفق عليه، رواه البخاري في أبواب الخمس 2935 باب ما جاء في بيوت أزواج النبي
وما نسب، ورواه مسلم في الطهارة 226باب الاستطابة.

0 تعليقات:

إرسال تعليق