2011/06/14

أسباب اختلاف الفقهاء - أ . د. إبراهيم سلقيني



أولاً: نتذكر الأمور التالية:
1- إن الاختلاف بين الفقهاء منحصر في الفروع الفقهية مع الاتفاق الكامل على الأصول، سواء أكانت في العقيدة وأركان الإيمان والإسلام، أم في أصول التشريع من القرآن والسنة والإجماع والقياس،
وهذا الاتفاق على الأصول والقواعد العامة هو من فضل الله على هذه الشريعة التي هي خاتمة الشرائع والرسالات والتي تكفَّل الله بحفظها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما الاختلاف في الفروع الفقهية وفي الأحكام التفصيلية، فلا خطر منه ولا ضرر، بل هو عامل من عوامل خلود هذه الشريعة.
2- إن الاختلاف في الأمور الفرعية والتفصيلية أمر طبيعي، ولا يوجد تشريع سماوي أو وضعي يخلو من ذلك، بل لا يوجد علم من العلوم يخلو منه، فعلماء القانون مختلفون في شرحه وتفسيره، والمحاكم مختلفة في تطبيقه، وعلماء التاريخ مختلفون في رواياته وأحداثه، والأطباء والمهندسون والخبراء والفنيون يختلفون في الموضوع الواحد والنظر إليه وتحليله.
فالاختلاف في الأمور الفرعية والتفصيلية أمر طبيعي تقتضيه الحياة العلمية والعملية.
3- إن الاختلاف بين المذاهب الفقهية كان السبب في تزويد المكتبة الإسلامية بالموسوعات الفقهية الضخمة، ففي كلّ تشريع منها أثر، وفي كلّ مكتبة من مكتبات العالم منها خبر، والتي جعلت العرب والمسلمين يملكون ثروة تشريعية لا تملكها أمة من أمم الأرض، كما جعلت من ذلك التشريع تشريعاً مرناً متجدداً ومستمراً وصالحاً لكل زمن ومكان، صالحاً لأرقى حضارة نتطلع إليها، وأعظم مدنية نهدفها، ملبياً لجميع حاجات التقدم والتطور والعمران خلال العصور الطويلة، جامعاً بين مصالح الجسد ومصالح الروح، ومتطلبات الفرد والجماعة، شاملاً لجميع أفعال الناس، ناظماً لأمور الدين والدنيا، ذلك لأنّ الخلاف في الفروع سعة وغنى في التشريع، فإنّ ضاق بالأمة مذهب استعانت بالآخر، وإن صعب عليها حكم أو أوقعها في حرج لجأت إلى غيره.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (ما سرني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة).
4- لم يكن الاختلاف مبنياً على هوى أو انتصاراً لذات أو شخص، أو اندفاعاً وراء أغراض ومصالح، بل كان مبنياً على أسس علمية موضوعية، فقد كان الوصول إلى الحق هدفهم، ومرضاة الله وإخلاص العمل له غايتهم.
5- لم يقع اختلاف في النصوص القطعية الثبوت والدلالة، فالقرآن بجميع آياته قطعي الثبوت، لأنه نُقل متواتراً، وكذلك السنة المتواترة قطعية الثبوت.
وإنما ينحصر الخلاف في النصوص الظنية كأخبار الآحاد، وفي الدلالات الظنية.
6- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المرجع الوحيد للتشريع حيث كان يعتمد على الوحي، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى،إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3-4].
وكان الصحابة إذا اختلفوا في حكم لم يرد فيه نص رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع كلّ ذلك فإننا نلاحظ تعدد الأقوال في المسألة الواحدة في حياته صلى الله عليه وسلم، كما كان يُقر حُكمين مختلفين ليبين إباحة الأمرين، وأذكرُ من ذلك الأمثلة التالية:
أ – عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (نَادَىَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ انْصَرَفَ عَنِ الأَحْزَابِ "لاَ يُصَلّيَنّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إلاّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" فَتَخَوّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ، فَصَلّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ نُصَلّي إلاّ حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ. قَالَ: فَمَا عَنّفَ وَاحِداً مِنَ الْفَرِيقَيْنِ) أخرجه مسلم.
ب: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خَرَجَ رَجُلاَنِ في سَفَرٍ، فَحَضَرَتِ الصّلاَةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَتَيَمّمَا صَعِيداً طِيّباً فَصَلّيَا ثُمّ وَجَدَا الْمَاءَ في الْوَقْتِ فأعَادَ أحَدُهُمَا الصّلاَةَ وَالْوُضُوءَ وَلَمْ يُعِدِ الاَخَرُ، ثُمّ أتَيَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فقال لِلّذِي لَمْ يَعُدْ: أصَبْتَ السّنّةَ وَأجْزَأتْكَ صَلاَتُكَ، وقال لِلّذِي تَوَضّأَ وَأعَادَ: لَكَ الأجْرُ مَرّتَيْنِ) أخرجه أبو داود والحاكم.
ج- أُتي بصحابيين إلى مسيلمة الكذاب، فأمسكهما وهددهما بالقتل، وقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسولُ الله، قال: ما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضاً فخلاه، ثم قال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: ما تقول فيَّ؟ قال: إنما أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه فقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له).
هذا التعدد في الأحكام لحادثة واحدة، وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لاختلاف الصحابة في مسألة واحدة، يدل على سعة هذه الشريعة ومرونتها، والتيسير فيها، ورفع الحرج عن المكلفين في تطبيقها.
ثانيااً: نستطيع بعد ذلك أن نعرض أهم أسباب الاختلاف باختصار:
1- الاختلاف في الاستعدادات الفطرية والمكتسبة لدى الناس جميعاً ومنهم العلماء، فالناس طبائعهم متباينة، وقدراتهم مختلفة، وفي ذلك يقول الشيخ علي الخفيف رحمه الله تعالى: "إنّ عادات الناس مختلفة، وآرائهم متعارضة، وأعرافهم متعددة، وأعمالهم متنوعة، وأنظارهم متفاوتة: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [الروم: 30].
وإذا اختلفت المقدمات اختلفت النتائج، فما دام الناس يختلفون في الألوان، والألسنة، والطبائع، وطرق معايشهم، وفي الثقافة التي ينهلون منها... فإنهم لا شك يختلفون في فهمهم واجتهاداتهم ، لاختلاف المدارك والعقول".
فالاختلاف بين الناس واضح في الملكات والقدرات والتفكير والفهم.
2- اختلاف البيئات والعصور دفع الأئمة إلى اختلاف في الأحكام الفرعية، فكان الإمام الواحد يغير من اجتهاده في المسألة الواحدة إذا تغيرت هذه الظروف، كما حصل للإمام الشافعي رضي الله عنه، وكما حصل مع الصاحبين بعد وفاة الإمام أبي حنيفة، وكما نرى من الاختلاف في الأمور الاجتهادية الفرعية بين المتقدمين والمتأخرين في المذهب الواحد، ولذلك وضعوا القاعدة الفقهية: (لا ينكر تغير الأحكام لتغير الأزمان) لتأكيد صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وأنها خالدة وحجة على المؤمنين بها والحاقدين عليها.
3- الاختلاف في فهم النصوص عندما تكون دلالتها غير قطعية، ويكون المعنى محتملاً أو خافياً مما يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام بين الفقهاء.
4- الاختلاف في اللغة التي نزل بها القرآن الكريم حيث كانت لغة واسعة، فيها المشترك والمترادف والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، أدى إلى الاختلاف في فهم النص ودلالته، وإلى الاختلاف في استنباط الأحكام مثل لفظ القرء والعين وحروف الجر والعطف، فيقال: رأيت عيناً، ويراد بها: عين الماء، أو عين الإنسان، أو الجاسوس. وكذلك القرء يراد به: الحيض، ويراد به الطهر، كما في الآية الكريمة: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [البقرة: 228].
5- الاختلاف في حجية بعض مصادر التشريع، فقد اتفق الأئمة على حجية القرآن والسنة والإجماع والقياس، لكن اختلفوا في حجية باقي المصادر كما سنرى في الكلام على الاستحسان والمصالح المرسلة، وغيرها، من المصادر المختلف فيها، فهناك من ينظر إلى فعل الصحابي مثلاً أو فتواه نظرته إلى النصوص الشرعية فيعتبرها حجة، وهناك من يخالفه في ذلك، وهناك من يعتبر عمل أهل المدينة حجة.. وهكذا.
6- الاختلاف في ثبوت النص الشرعي أو عدم ثبوته، ذلك لأن النص الشرعي هو المرجع الأول للمجتهدين جميعاً، فإذا صح الحديث واتضحت دلالته وسلم من المُعارض كان عليه الاعتماد في الحكم لا يخالف في هذا أحد، وهذا هو معنى قول الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" فلا يمكن لمسلم أن يعرض عن الحديث الشريف، ولكن هناك وصول النص إلى هذا الإمام وعدم وصوله إلى غيره، وذلك لعدم الإحاطة الكاملة بالسنة.
وهناك ثبوته عند هذا وعدم ثبوته عند غيره، وذلك تِبعاً للاختلاف في توثيق الرجال والرواة وتضعيفهم، أو تبعاً إلى شذوذ في المتن أو في السند بالنسبة إلى سند آخر أو متن آخر، إلى غير ذلك، فيقضي العالم حينئذ بظاهر آية أو بحديث آخر أو يجتهد رأيه، فأبو بكر لم يعلم بحديث ميراث الجدة، وعمر لم يبلغه حديث الاستئذان: (إِذَا اسْتَأْذَنَ أحَدُكُم ثَلاَثاً فَلمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ) وحديث الجزية على المجوس، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (سُنّوا بهم سُنَّةَ أهْل الكِتاَبِ).‏ وعثمان لم تبلغه السنة في اعتداد المتوفى عنها زوجها، في بيت الزوجية.. وهكذا.
7- الاعتقاد بضعف الحديث لمعرفة خاصة بأحد رجال السند فيرد حديثه، بينما يخفى هذا الأمر على آخر فيقبله.
8- نسيان الحديث: لأنّ السنة لم تكن مدونة في صدر الإسلام، وكان الاعتماد فيها على الحفظ، والإنسان قد ينسى فقد نسي عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث التيمم من الجنابة عند عدم الماء فذكَّره به عمار رضي الله عنه.
9- الاختلاف في طرق الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة في ظاهرها: فعلى فرض الاتفاق بين العلماء على ثبوت النص وفهمه قد يعترض أمر آخر، وهو عدم سلامة هذا النص من معارض راجح من النصوص الأخرى، وهنا يحصل الاختلاف في طرق الجمع بين النصوص أو ترجيح بعضها على بعض، وباب الجمع والترجيح باب دقيق يتجلى فيه تفاوت الأفهام وعمق الأنظار.
ومن أمثلة اختلاف العلماء في طرق الجمع: اختلافهم في قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام.
هذه بعض أسباب الاختلاف وهو اختلاف في الفروع، كما رأينا فلا يضر الأمة ولا يفرق شملها ولا يؤدّي لانقسامها، وإنما الخطر الكبير في الاختلاف في العقيدة، وهذا لم يقع بحمده تعالى، وإذا رأينا تعصباً مذهبياً مقيتاً أو انقساماً مفرقاً في بعض الأحيان، فإن سببه الجهل بالشريعة أولاً، وبسيرة الأئمة وأقوالهم ثانياً، وإلى الأيدي العاتية الأثيمة والدخيلة التي تريد تمزيق الأمة ثالثاً.
وفي الجهة المقابلة للتعصب المذهبي المبني على الجهل وضيق النظر، نجد بعض قاصري النظر أيضاً يقفون من الاختلافات الفقهية موقف المستنكر أو المتشكك المرتاب.
ولعلّ السبب في هذا الموقف المتطرف اعتقاد هؤلاء أن سبب اختلاف الفقهاء هو فقط محصور في ثبوت النص أو عدم ثبوته، فإذا توافرت النصوص لدى الجميع بعد تدوين السنة في الصحاح مثلاً، وتميَّز صحيحها من ضعيفها كان لازماً زوال هذا الاختلاف، وزوال آثاره بين العلماء، فتعود المذاهب مذهباً واحداً لا خلاف فيه.
وكثيراً ما أدت هذه النظرة السطحية الخاطئة لمسألة اختلاف العلماء في الفروع إلى التهجم على المذاهب ومحاربتها، كما جعلت أناساً آخرين يعلنون الدعوة لتوحيد المذاهب، ظانين أن الوقت قد حان بعد تدوين السنة وانتشار كتبها، ليجمعوا الناس على مذهب واحد يُدعى مذهب الكتاب والسنة، ويَدَّعون أنه لا داعي للمذاهب الفقهية ما دام الدين واحداً والقرآن واحداً والسنة واحدة.
ولو عرف هؤلاء ما بيَّنَه العلماء والأئمة من أسباب الاختلاف، مما أشرت إلى بعضه، لعلموا أن ما ظنوه السبب الوحيد للاختلاف، وهو عدم وصول النص إلى المختلفين ما هو إلا سبب واحد من الأسباب الكثيرة التي أدت إلى تنوع الآراء واختلافها.
                                                                 أ . د. إبراهيم سلقيني

0 تعليقات:

إرسال تعليق