2011/06/23

أطوار الاجتهاد الفقهي - د. عبدالله الزايد


أطوار الاجتهاد الفقهي - د. عبدالله الزايد

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.


        أما بعد، فإنه لمن دواعي رغبتي في الكتابة أن أتقدم ببحثي هذا إلى مجلة البحوث الإسلامية التي تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد؛ فلها قيمتها العلمية الخاصة بين طلاب العلم ومحبي المعرفة ورواد البحث، أو أنه يجب أن تكون لها هذه المنزلة لديهم وأرجو أن يكون هذا البحث مما يجدر أن تضمه هذه المجلة الرائدة.

وقد اشتمل البحث على أطوار الاجتهاد من عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى ما بعد عهود التابعين - رحمهم الله - وقد راعيت فيه أن يكون متمشياً مع كل الأطوار التي استدعت ما يناسبها من الاجتهاد، وقد حاولت أن يستنتج القارئ بنفسه في كثير من فصول البحث الفرق بين أطوار الاجتهاد وسيجد ذلك واضحاً في الفرق بين اجتهاد الصحابة - رضوان الله عليهم - وبين اجتهاد من جاء بعدهم وهكذا الفرق بين اجتهاد التابعين وبين اجتهادات غيرهم؛ وإلى جانب ذلك سيجد القارئ الكريم تراجم للأعلام الذين جاء ذكرهم في البحث أو أكثرهم.

وأرجو أن يمن الله بفرصة أستطيع أن أواصل فيها البحث عن أهم أبواب الأصول وأكثرها صلة بحياة الناس وإفادة الباحثين وطلاب المعرفة والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه في البدء وفي الانتهاء وسلم.

الطور الأول من أطوار الاجتهاد في:

عهد الخلفاء الراشدين:

أ - إن مما لا جدال فيه أن مصدر التشريع في عصر النبوة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان موئل الاستفتاء والاستقضاء فلما لحق بربه - عزَّ وجلَّ - وانقطع الوحي بذلك انقلبت قيادة الأمة في أمور الدنيا والدين إلى خلفائه الراشدين وكبار الصحابة فاضطلعوا بهذه المهمة ونهضوا بأعبائها على خير وجه كيف لا وقد استفادوا من صحبته - صلى الله عليه وسلم - وعلوا بعد أن نهلوا من مجالستهم إياه سفراً وحضراً، سلماً وحرباً، ما أكسبهم الذوق التشريعي السليم حين تعرض عليهم الحوادث، فيزنونها بميزان الشرع ولهذا كان حكمهم أصح من أحكام غيرهم، ذلك بالإضافة إلى ما قد رباهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تربية تشريعيةِِْْ محكمة يشاهدونه وهو يجتهد في حادثة لأنها تشتمل على وصف كذا ويرون تطبيقه لأحكام القرآن في غير ما حادثة قد ينزل على سبب فيطبق على سببه وعلى غيره. كل ذلك أكسبهم هذا الذوق وصدق التقدير الشرعي فيما لم ينص على حكمه.

ولقد دفعتهم سرعة الأحداث ومجريات الأمور إلى ولوج باب الاجتهاد والتصدي للفتوى ببصيرتهم النافذة فلم تمض لحظات على وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خطب أبو بكر في الناس يفتيهم في أمرهم ويوضح لهم ما ينبغي أن تكون عليه الحال بعد أن اختلفت وجهات القوم وكاد يتفاقم الأمر فيما بين المسلمين فكان لكلامه بين الناس الوقع الجميل، وللفتاته على النفس برد وسلام ردهم الله به من هاوية كادت تعصف بالأمة في أودية من الخلاف الذي ما إن ينشب بمخلب واحد حتى يمزق الأمة كما حصل في عهود الخلاف والتفرق.

أوَ لم يكن الصديق - رضي الله عنه - صاحب الموقف الأول ذلك الموقف الإيجابي البديع حين ترامي إلى مسامع الناس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بكت على وفاته السماء والأرض، وقال قائلهم: إنه لم يمت، وهدد آخر بقوله: من قال إن محمداً مات فلأفعلن به ولأفعلن (ووقف عمر بن الخطاب وقال - من شدة حزنه وانفعاله -: من قال إن محمداً قد مات فلأفعلن به ولأفعلن)، فقال الصديق - رضي الله عنه -: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(1).

وما أن استقر أمر الخلافة حتى واجهتهم المهمة الشاقة باتساع الفتوحات وامتداد نفوذ المسلمين إلى ما وراء الجزيرة إلى مصر والشام وفارس والعراق حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وانضوت أمم وشعوب مختلفة تحت راية الإسلام ولابد أن لهذه الشعوب من العادات والأعراف والنظم الاجتماعية والاقتصادية وسائر أمور تعاملهم في الحياة ما هو غريب على عهد المسلمين الذين فتح الله على أيديهم هذه الأمصار والأقاليم.

فتطلب الأمر من المجتهدين البحث عن أحكام شرعية لتلك الأمور حتى يقام منهج الله.

وغني عن القول أنه لم ينص على أشخاص الحوادث لا في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة فكان لزاماً عليهم أن يجتهدوا في تطبيق القواعد الكلية المقررة لنص من الكتاب والسنة على أشخاص هذه الحوادث الطارئة عليهم فبذلوا قصارى جهدهم، ووقفوا نشاطهم على استنباط أحكام ما جد من مسائل دون أن يتجاوزوها إلى الافتراضيات.

وكان اجتهاد الصحابة - رضي الله عنهم - بمعناه الواسع فقد نظروا في دلالة النصوص وقاسوا واستحسنوا إلى غير ذلك من العمل بالأمارات وقرائن الأحوال، إلا أنهم كانوا يطلقون كلمة الرأي على ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب فيما تتعارض فيه الأمارات.

وإذ هم يستعملون الرأي بمعناه الواسع لم يكونوا ليطلقوا على أضرب الاجتهاد مصطلحاته الأصولية التي عرفت فيما بعد، كالاستحسان، والمصالح المرسلة، والقياس بأنواعه، وقاعدة سد الذرائع، وعموم البلوى ونحو ذلك.

وقد كان الاجتهاد في هذا العصر - كما أشرنا - مقصوراً على استنباط الأحكام لما هو واقع دون أن يلجؤوا إلى الافتراضات. فلم يكونوا يفترضون مسائل لم تقع ثم يبحثون عن حكمها كما سيأتي فيمن بعدهم.

وقد رُوي عن بعض الصحابة نهيُ الناس عن الخوض فيما لم يقع، ومن ذلك ما رُوي عن زيد بن ثابت(2) - رضي الله عنه - أنه كان إذا استُفتِي في مسألة سأل عنها، فإن قيل له وقعت أفتى فيها وإن قيل له لم تقع قال: دعها حتى تكون، ويروى مثل ذلك عن عمر - رضي الله عنه - (3).

ب - أسباب ترك الصحابة الافتراض في الأحكام:

لم يترك الصحابة - رضي الله عنهم - افتراض المسائل وتقدير أحكامها لأنهم منصرفون عن ذلك بجهاد أو غيره. إذ العلم من الجهاد بل من أعظم الجهاد وإذا دعت الحاجة إليه فلا ينبغي أن يشغل عنه شاغل، ولكن حقيقة تركهم تعود إلى أمرين هامين:

أحدهما:

أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسلك هذا المسلك وهو المدرسة المعصومة التي تخرج فيها هؤلاء الصفوة.

ولو سلك التشريع هذا المسلك - أعني الافتراض - لنتج عنه محذورات ثلاثة:

المحذور الأول:  

أن هذا خلاف كون الشريعة جاءت أحكامها عامة كلية في غير ما تناولته وقت الوحي أو المسائل التي لا يجوز فيها الاجتهاد. وقد تقرر أن الشريعة جاءت أحكامها كلية وعامة بل حتى ما نزل به الوحي مفصلاً في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر والنواهي يعتبر كلياً فيما بعد التشريع حين نزوله.

المحذور الثاني:  

لو سلك التشريع هذا المسلك لكانت الشريعة غير ما قص الله علينا من أنه ما جعل علينا في الدين من حرج، ووجه الحرج ههنا أن الصور لا نهاية لها إلا بقيام الساعة وهذا أمر مستحيل عادة أن يتحمله جيل لكل الأجيال إلى ذلك الحين ولكن الله - عزَّ وجلَّ - تكرم ولطف بأن جعل الشريعة يسراً لا حجر فيها كما شرع تعالى لا تبديل لشرعه كما لا تبديل لخلقه.

المحذور الثالث:

لو سلك التشريع مسلك الافتراض لأدى بكثير من العقول إلى الفتنة التي جاءت الشريعة منقذة منها والفتنة الكفر أو الحيرة التي أنقذ الله منها بهداه من شاء من عباده، وإنما الحيرة من دعوة الشيطان يستهوي بها إلى الضلال بعضاً من الغاوين.

ووجه ذلك أن كثيراً من الأمور التي تتناولها قواعد الشريعة الكلية وعموم أحكامها لو ذكرت تفاصيلها للأجيال الأولى لأدت إلى ما قلنا، مع أنه لا حاجة إليهم بذكر التفاصيل ويكفي من بعدهم وضع التقعيد العام الذي ينتظم حكم ما سيجد بينهم، ولنضرب لذلك مثلاً: في الركوب وحمل الأثقال والمتاع والزينة فإنه قد جد لهذه المرافق من أمور الناس من الطائرات السابحة في أجواء الفضاء على اختلاف أنواعها، ومن السفن الماخرة في عباب المحيطات كذلك سواء منها ما يجري على متون البحار أو ما يسير في قيعانها من وسائط النقل البري المختلفة من حاملة ضخمة إلى (سيارة) لا تحمل إلا شخصين أو ثلاثة وتلك أمور تستدعي أحكاماً متعددة:

1 - من جهة حل ركوبها واستعمالها: وقد جاء قوله – تعالى -: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(4).

فجملة {ويخلق ما لا تعلمون} تنتظم جميع هذه الوسائل وغيرها مما هو في علمه تبارك وتعالى.

2 - ومن جهة الأحكام المتعلقة بالسفر والترخص بقصر الصلاة الرباعية والفطر في نهار رمضان: فقد جاءت أحكام ذلك صالحة لكل سفر سواء ما كان معروفاً في زمن الوحي أو في زمننا هذا إذ لم تحد بمسافة بل جيء بما يصلح لكل زمان من إطلاق اسم السفر دون إشارة إلى ذكر آلات السفر (إذ المعتبر في قصر الصلاة وفطر رمضان هو المسافة لا آلة السفر).

فلو ذكرت هذه على وجه التفاصيل لعاش كثير من الناس في صراع مع الحيرة داخل أعماق نفوسهم إذ العقل لا قبل له بتسليم هذه الأشياء إلا في عالم الذهنيات إلا أن يكون قد بلغ في الإيمان مبلغ أبي بكر وعمر ونحوهما. ولأدت هذه الحيرة إلى اهتزاز الإيمان في النفس والبعد كثيراً عن الإيمان بالله ورسوله بعد أن دخلوا فيه دون أن يكون ثَمَّ داعٍ إلى إقحام العقول في مثل هذه الورطة، وإنك لترى التشريع ينحو هذا النحو حتى عند تطلع الصحابة إلى معرفة بعض أمور لا حاجة إليها سوى المعرفة بحقيقتها ومن ذلك ما قيل في سبب نزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}(5).

فقد ذكر القرطبي(6)في تفسيره أن معاذاً(7) - رضي الله عنه - قال: ((يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اليهودَ تَغْشَانَا وَيُكْثِرُونَ مَسْأَلَتَنَا عَن الأَهِلَّةِ؟ فَمَا بَالُ الهِلالِ يَبْدُو دَقِيقَاً ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَسْتَوِِي وَيَسْتَدْبِر ثُمَّ يُتْنَقَصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ؟)) فأنزل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} الآية.

وقيل إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي - صلى اله عليه وسلم - عن الهلال وما سبب محاقه(8) وكماله ومخالفته لحال الشمس قاله ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم(9).

وقال العوفي عن ابن عباس سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} وقال العوفي عن ابن عباس سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية.

يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم(10).

فإن الحاجة داعية إلى معرفة ما أجيبوا به لا ما سألوا عنه.

ولقد كان من طبع اليهود كثرة المسائل التي تورث الاختلاف منهم على أنبيائهم، وقد نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن ذلك بقوله - عليه السلام - ((إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ))(11). فاليهود في هذه الأمة عليهم لعنة الله أرادوا أن يشغلوا المسلمين بما ارتكسوا فيه من الشغب والتفرق عن الحق والمعاندة للرسل، فحمى الله صدر هذه الأمة لأنه المثال الخيِّر لكل القرون بعده. وكان من تلك الحماية هذا المسلك الرائد إلى الهدى على يد معلم الهدى - صلى الله عليه وسلم - حتى لا تضل القرون وتهلك الأمة في متاهات الحيرة والتشكك.

وقد جنت الأمة بعد الجيل الأول من ثمار هذه التربية خيراً كثيراً بما هُيء لهم من فرض الاجتهاد وترك تنزيل الأحكام على الحوادث رهناً باجتهاد ذوي الاجتهاد في كل بلد بما يناسب الحال في إطار الشريعة الإسلامية السمحة فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة.

الأمر الثاني من الأمرين الهامين:  

أن الصحابة تركوا افتراض المسائل وتقدير أحكامها فيما لم يقع بينهم، إدراكاً منهم لما يأتي:

1 - أن الأمة لا يزال فيها من يفتيها في أمور دينها قياماً بأمر الله الذي وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن هذه الأمة لا يزال فيها من يقوم به حتى تقوم الساعة.

2 - أن الاجتهاد ليس حكراً عليهم دون الأجيال.

وخوفاً من الوقوع في المأثم المترتب على الخطأ في الرأي الذي يقررونه لجيل غير جيلهم وكأنه حكم معصوم بالوحي، والحكم المعصوم بالوحي انتهى بما تقرر بالنص في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما أراد تعالى أن تكون الأمة عليه في أمر معاشها ومعادها، وليس من حق أحد بعدَه أن يقرر هذا التقرير.

ولقد رأينا سلامة هذا المسلك من الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن اشتغل الفقهاء بتلك الأمور من الفرضيات التي كان كثير منها أقرب إلى اللهو ومضيعة الوقت منه إلى الجد والمحافظة على الأوقات، مع ما أثارت من تبلد في أذهان الذين ورثوا هذه الكتب المشحونة بها إلى أن وصل الفقه بين المسلمين إلى حد ليس بعده إلا الموت، وقل في الأمة من يقال عه إنه مجتهد مطلق أو قريب منه منذ قرون. ( ولقد رأينا سلامة هذا المسلك عند الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن رأينا عند الفقهاء من بعدهم الإيغال في بعض المسائل الفرضية بما لا حاجة إليه، وإن كانوا فعلوا ذلك للمبالغة في الاحتياط من باب قوله تعالى - (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) إذ ربما يستحدث بعدهم ما لم يكن في زمانهم، ولكل وجهته وكل من رسول الله ملتمس).

وفي وقتنا الحاضر لا أعلم من يطلق عليه هذا اللقب مع شديد الأسف وإنما يوجد أفراد جد قلائل يمكن أن يطلق على بعضهم مجتهد مذهب.

فرضي الله عن صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم لحمل الأمانة إلى الأجيال فسلموها إليها صافية المنهل طيبة المجتنى.

جـ - طريقة الصحابة - رضي الله عنهم - في استنباط الأحكام:

كان للصحابة - رضي الله عنهم - وبخاصة في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة مجالات ثلاثة يسلكونها للوصول إلى حكم الوقائع بشريعة الله - عزَّ وجلَّ - وتلك هي:

1 - أخذ الحكم الشرعي من ظاهر النص أي تطبيق النصوص على الحوادث المندرجة تحتها، ويدخل في هذا المسلك إجماع الصحابة على الحكم كما كان معروفاً في عهد أبي بكر وعمر، (فإنه عندما يعييهما) أن يجدا نصاً لحكم الواقعة في القرآن أو السنة يلجئان إلى جمع رؤوس الناس وخيارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضيا به إلا أن عمر كان ينظر قبل تلك الخطوة في المأثور عن أبي بكر.

2 - القياس على الأشباه والنظائر، وهو أمر دربهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه باجتهاده كما في قصة المرأة التي سألته عن الحج عن أمها وقد ماتت.

أ - كتاب عمر بن الخطاب إلى قاضيه باليمن أبي موسى: ((اعْرفِ الأَشْبَاهَ والنَّظَائِرَ ثُمَّ قِسْ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِك)) الخ.

ب - ما روي من قضائهم في الجد والأخوة في الميراث، وتشبيههم إياها بالجدولين من النهر أو بالغصنين من الشجرة.

جـ - ما ذكر من قياسهم الشارب على القاذف من أجل إقرار الحد ثمانين جلدة إلى غير ذلك مما أثر عنهم - رضي الله عنهم - في هذا المجال.

3 - استنباطهم الحكم مراعين فيه مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية التي منها قاعدة سد الذرائع ونحوها.

ويمثل لذلك بما جرى بين أمير المؤمنين عمر وبين حذيفة بن اليمان(12) - رضي الله عنهم - وقد تزوج حذيفة بكتابية بالمدائن فكتب إليه عمر  :   ((أن خل سبيلها فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين )).

هذا هو أسلوبهم فيما كان يعرض عليهم من قضايا وبه أوصوا قضاتهم الذين كانوا يبعثونهم إلى المدن والأمصار وذلك بعد أن فُصِلت مهمة القضاء من الولاية العامة في عهد الفاروق وحين كثرت الأعمال في عهده، فقد أثر عنه - رضي الله عنه - أنه لما ولى شريحاً الكندي قضاء الكوفة قال له: ((اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أحله إن لم تجد ذلك على قضاء الأئمة المجتهدين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم على الاجتهاد)).

ومع استعمالهم - رضي الله عنهم - للرأي لم يجرؤ أحد منهم أن يجزم بأن ما وصل إليه هو حكم الله وأنه الحق والصواب وأن ما عداه هو الخطأ، بل كان هديهم في هذا كما قال أبوبكر - رضي الله عنه -.

((أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني)) الخ(13).  

ولما سئل ابن مسعود - رضي الله عنه - عن المفوضة(14) التي ماتت قبل أن يدخل بها زوجها قال: أقول فيها برأيي: ((لها مهر المثل لا وَكْسَ ولا شطط فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان))(15).

د - سبب اختلاف فقهاء الصحابة في بعض الأحكام:

في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مجال للاختلاف في الأحكام بإطلاق وذلك نظراً إلى وحدة التشريع وتركز الفتوى والقضاء في شخص النبي - صلى الله عله وسلم - أما في عصر الصحابة فقد تغيرت الحال: فأصبحت الأحكام طائفتين:

طائفة: هي محل وفاق بينهم، وطائفة اختلفوا فيها باختلاف وجهات أنظارهم في القاعدة التي تحكم الحادثة المعروفة أو الواقعة.

ولكن مهما كان الاختلاف موجوداً في عهد الصحابة فإنه أضيق دائرة من اختلاف من جاء بعدهم، وكانت أسباب اختلافهم ترجع إلى أمور أهمها ما يلي:

1 - الاختلاف في فهم القرآن:

فقد يكون اللفظ الوارد فيه مشتركًاً بين معنيين فيحمله أحدهم على أحد المعنيين ويحمله الآخر على المعنى الثاني لقرينة تظهر له؛ فقد اختلفوا في تفسير لفظ القرء الوارد في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}(16). لأن القرء في اللغة يطلق على الحيضة والطهر.

وقد ذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى أن عدة المطلقة لا تنتهي إلا باغتسالها من الحيضة الثالثة لأنه يرى أن القرء هو الحيضة وهو رأي عمر أيضاً، ولكن زيد بن ثابت يرى أن القرء هو الطهر؛ ولهذا ذهب إلى أن العدة تنتهي متى دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة دون أن تنتظر حتى تطهر منها(17).

وأحياناً يكون الخلاف راجعاً إلى حمل اللفظ الوارد في القرآن على الاشتراك المعنوي كما فى مسألة الجد والأخوة فإن من حجب الأخوة به رأى أن معنى الأبوة متحققة فيه كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ}(18) وهو الجد الأول للبشرية جمعاء. وكما في قوله - عزَّ وجلَّ - عن يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي}الآية(19).

ومنهم من رأى عدم الاشتراك بتسميته جداً ونظر إلى معنى آخر وهو اشتراك الجد والأخوة في قربهم من الميت باستواء.

وأحيانًا يكون الاختلاف راجعاً إلى تعارض نصين عامين في القرآن، فقد ذهب عُمر وابنُ مسعود إلى أن الحامل المتوفى عنها زوجها تكون عدتها وضع الحمل، وذهب علىٌ وابنُ عباس إلى أنها تعتد بأبعد الأجلين (وضع الحمل أو عدة الوفاة). وسبب الخلاف أن قوله تعالى: {أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}(20) يدل على عدة الحامل وضع الحمل.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}(21) يفيد أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام من غير تفصيل بين الحامل وغيرها، فذهب علىُّ وابنُ عباسٍ إلى العمل بالآيتين معاً فتكون كل آية منهما مخصصة لعموم الأخرى وذهب عُمر وابن مسعود إلى أن آية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} خاصة بغير الحامل لتأخر آية {وَأُولاتُ الأَحْمَال أَجَلُهُنّ}.

والصواب ما ذهب إليه عُمر وابن مسعود بلا شك لحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية؛ فقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة - رضي الله عنه - في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها (أي طهرت من نفاسها) تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل ابن بعكك (رجل من بني عبد الدار) فقال لها: مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح: إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرة قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي(22).

2 - الاختلاف في أمور تتصل بالسنة:  

إن من الصحابة المقل ومنهم المكثر في محفوظه من السنة المطهرة فقد كان فيهم الملازم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشغله شاغل عنها، ومنهم من شغله الصفق في الأسواق طلباً للرزق الذي أباحه الله - عزَّ وجلَّ -، وآخرون يقاتلون في سبيل الله في السرايا التي كان ينظمها النبي - صلى الله عليه وسلم -، لذلك ولتعليم الناس دين الله - عزَّ وجلَّ - ولجباية الزكوات، ولا ريب أن ذلك سيكون له أثر في الأحكام التي يفتى بها كل من هؤلاء وهؤلاء ولهذا كان بعض الصحابة إذا أفتى برأيه واستبانت له السنة رجع عنه. ومن ذلك: ما روي أن أبا موسى الأشعري(23) - رضي الله عنه - أفتى برأيه في ميراث بنت الابن مع البنت والأخت؛ فقسم المال بين البنت والأخت نصفين ولم يفرض لبنت الابن شيئاً. وقال للسائل: ((وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسُئِل ابنُ مسعود وأُخبِر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين: أقضى فيها بما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتيا أبا موسى فأخبراه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم)) (24).

3 - الاختلاف في الرأي:

علمنا من طريقتهم في الاستنباط أنهم - رضي الله عنهم - إنما يلجؤون إلى العمل بالرأي إذا لم يجدوا نصاً من كتابٍ أو سنةٍ، ومما لا شك فيه أن الرأي مختلف باختلاف الناظرين؛ وفتاوى الصحابة - رضي الله - عنهم التي اختلفت وجهات نظرهم فيها إنما مردها إلى اختلاف منازعهم في المأخذ، ولكل وجهة هو موليها.

ومع أنه قد حصل شيء من الاختلاف فيما بينهم من جهة الرأي فقد كان شيئاً قليلاً بالنسبة ل من بعدهم ويرجع ذلك إلى الأمور الآية:

1 - تيسر الإجماع في هذا الدور لأن المفتين من الصحابة وكبارهم كانوا مجتمعين في المدينة عاصمة الخلافة آنذاك، وقد ساعد على ذلك أن عمر كان ينهاهم عن الخروج من المدينة إلا بإذنه عند الحاجة الشديدة.

2 - تمسكهم بمبدأ الشورى وهو من الأمور التي لا يجد الخلاف معها سبيلاً في الغالب.

3 - قلة روايتهم لأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوف الوقوع في الكذب، ولهذا كانوا يتشددون في قبولهم، فأبو بكر وعمر كانا يطلبان شاهداً خلاف الراوي (أحياناً) ورُوي عن علي قولُه: "كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله بما شاء منه ,وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته".

4 - قلة الحوادث في عصرهم وتورعهم عن الفتيا فقد كانوا يميلون على بعضهم، يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتيا ويود كل واحد منهم أن يكفيَه إياها غيرُه فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل جهده في معرفة حكمها من الكتاب أو السنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى(25).

هـ - خلاصة ما تقدم:

ويتلخص لنا مما سلف:

1 - واقعية التشريع وارتباطه بالحوادث التي تقع، وعدم افتراض وقوع حوادث، ثم تقدير أحكام لها وذلك للأسباب التي ذكرناها.

2 - قلة المسائل الخلافية لما منحهم الله من الذوق السليم لفهم الشريعة التي شاهدوا مُبلِّغها - صلى الله عليه وسلم - وتلقوا تربيتهم على يديه وواكبوا أسباب التنزيل إلى جانب ما أسلفنا بيانه.

3 - تفاوتهم في استعمال الرأي؛ فقد كان من بينهم من يتحرج من الخوض فيه إلا في حالات نادرة ومنهم من يتوسع فيه إذا لم يجد نصاً وينسب الخطأ إلى نفسه؛ فالأولون كعبد الله بن عُمر وزيد بن ثابت، والآخَرون كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود(26) - رضي الله عنهم جميعاً -.

وقد كان هذا الأمر مقدمة لبروز مدرستي الحديث والرأي فيما بعد.

4 - عدم تدوين الفقه بالمعني الذي صار إليه في عهد مَن بعدهم حين بدأ تدوين العلوم الإسلامية كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - وإنما هي فتاوى بأحكام محفوظة في الصدور تتناقل عنهم(27) اللهم إلا ما كان من كتابات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبعض عماله ككتابه إلى عمرو بن حزم، ببيان أنصبة الزكوات، وألا يمس المصحف إلا طاهر، وما أشبه ذلك مما هو مدون في هذا الكتاب، وقد طعن فيه المحققون من أهل الحديث بعدة علل، ومهما يكن من أمر فإن العلماء يسيرون على مضمون هذا الكتاب مما يشهد لصحته معنى وإن لم ثبت سنداً.

ومن ذلك كتابة عُمر إلى بعض قضاته؛ ككتابته إلى شريح القاضي(28) والى أبي موسى.

كما أن بعض الصحابة كعبد الله بن عمر كان يكتب عن رسول الله - صلى اله عليه وسلم - أحاديثه التي يسمعها منه. ولهذا كان من أكثر الصحابة حظاً في تجارة الحديث.

5 - حدوث اجتهادات قائمة على المصلحة ولم تكن هذه الأحكام على ما عُهد عليه الحال في عهد النبوة ومن ذلك:

1 - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى ألا تعطى المؤلفة قلوبهم من سهمهم من الزكاة.

ومبنى هذا الرأي: أن الله أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وأذل لهم رقاب العباد(29).

فقد نظر عمر - رضي الله عنه - إلى الباعث على الحكم فقرر أنه مؤقت بوصف متى زال ما بني عليه وهذا الوصف ضعف المسلمين وقوة عدوهم، وقد أعزهم الله ومكن لهم في الأرض فليس هناك حاجة إلى الإبقاء على هذا السهم.

وقال آخرون بل هو باق، ونظروا إلى أمرين:

الأول: أن النص القرآني الكريم واضح في هذا، وهو لم ينسخه شيء مع أنه لم يقترن بعلة تدل على وضوح العلَِّية التي أشير لها تبريراً للرأي الأول و(أل) في المؤلفة قلوبهم تؤكد بقاء هذا السهم ما وجد سبب للتألف على الإسلام وهو رجاء إسلام الكافر بدفعه إليه، أو كف شره، أو نحو ذلك مما ذكر من دواعي التأليف، في كتب الفقه.

الأمر الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تألف على الإسلام بعد فتح مكة وكسر هوازن في وقت قد أعز الله الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وبين العباد(30).

وهذا ما عليه الجمهور.

2 - ما صح عن عمر أيضاً - رضي الله عنه -: أنه جعل الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد ثلاث طلقات تبين به الزوجة بيونة كبرى ولا تحل لمطلقها كذلك حتى تنكح زوجاً غيره في نكاح صحيح.

وقال مبيناً مبنى رأيه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم عقوبة لهم على تسرعهم في الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله.

فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقَ ثلاثٍ واحدةً)). فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم(31).

وعمر - رضي الله عنه - لم يخف عليه أن السنة ما كان إلى السنتين الأوليين من خلافته وأنها توسعة من الله - تعالى - لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع مرات كلها جملة واحدة كاللعان، إنه لو قال: أشهد بالله أربع شهادات أني لمن الصادقين كان مرة واحدة، ولو حلف في القسامة وقال: "أقسم بالله خمسين يميناً أن هذا قالتل" كان كذلك يميناً واحدة.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((من قال في يومه: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر))(32).

فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة.

فهذه النصوص وغيرها مما في معناها مما دل على اعتبار إيقاع المعدود بعددٍ مرة بعد مرة هو الذي يدل عليه المعقول من اللغة والعرف.

وقوله تعالى: {الطلاق مرتان}(33) بابها وتلك النصوص واحد ومشكاتها واحدة.

ومما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مما كان عليه أمر الطلاق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله.

ولكنْ رأَى أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه فإذا علموا ذلك فكوا عن الطلاق المحرم فرأى عمر أن هذه مصلحة لهم في زمانه ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم لأنهم لم يتتابعوا فيه وكانوا يتقون الله في الطلاق وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم(34).

6 - أن مصادر التشريع في هذه الفترة هي:

1 - الكتاب. 2 - السنة. 3 - الإجماع. 4 - الرأي بمعناه الأعم.

هذا هو ما أردت أن أتطرق إليه من أهم عوامل تطور أصول الفقه في هذا الدور والله المستعان.

عصر الأمويين - أو عصر صغار الصحابة - رضي الله عنهم -

أ) في هذا الدور الذي يبدأ من ولاية معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - سنة 41هـ إلى الوقت الذي عرضت فيه بوادر الضعف في الدولة الأموية، وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري - في هذا الدور - سار الاجتهاد على نحو ما سبق في عصر الراشدين من حيث اعتماده على الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم الرأي إلا أنه قد جدت أحداث سياسية وأخرى غير سياسية كان لها أثر ظاهر في الحركة الاجتهادية.

فعلى الرغم من أن العام الحادي والأربعين يسمى بعام الجماعة إذ أن كلمة المسلمين قد اجتمعت على خلافة معاوية بعد تنازل الحسن بن على - رضي الله عنهما - له عن الخلافة حقناً للدماء، وجمعاً لشتات المسلمين وحذراً من تفرق جمعهم، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود طوائف تضمر الكيد والخلاف لمعاوية كالخوارج والشيعة فكان المسلمون بسبب هذا الخلاف ثلاث طوائف:

1 - خوارج.

2 - شيعة.

3 - وجمهور.

أما الخوارج: فهم الذين انشقوا على أمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين رضي بالتحكيم بينه وبين معاوية بحجة أنه جعل الحكم إلى الرجال ولا حُكْمَ إلا لله(35).

وقد تعددت فرق الخوارج حتى أحصاها بعضهم نحواً من عشرين إلا أن أشهرها خمس فرق:

1 - الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، ومذهب هذه الفرقة يقوم على تكفير المسلمين ما عداهم.

2 - الصفرية أتباع زياد بن الأصفر وهي أشبه الأزارقة في أكثر ما يختص بها.

3 - النجدات: أتباع نجدة بن عطية بن عامر الحنفي وأهم ما تنفرد به هذه الطائفة أن الدين أمران معرفة الله ومعرفة رسوله.

4 - البيهسية أتباع أبي بيهس: هيجم بن جابر.

5 - الإباطية - أتباع عبد الله بن إباض المري، ولا تزال منها بقايا إلى اليوم - أعني الإباضية - في عمان - من الخليج العربي - والجزائر وشرقي أفريقية(36).

وأما الشيعة: فهم فرقة لا يرون الخلافة حقاً إلا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وآل بيته لما يرونه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالخلافة له من بعده ومن ثم يكون من سلبهم هذا الحق ظالماً لا تصح ولايته ونتيجة لذلك لم يعترفوا بخلافة الأمويين وجوزوا الخروج عليهم إذا واتتهم الفرصة وهم فرق أشهرها الإمامية، ,الكيسانية، والزيدية.

والزيدية هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولم يدع زيد الإمامة لنفسه وإنما خرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن شيعة الكوفة لما رأوا رأيه في الثورة على الأمويين قالوا بإمامته(37). وتتمركز من في اليمن من جنوب شبه الجزيرة العربية(38).

ب) الذي يهمنا في هذا الفصل استبانة مدى أثر هذه الفرق على الاجتهاد في الفقه الإسلامي فنقول:

أولا: أثر الخوارج:

إن أهم ما يتميز به مذهب الخوارج: التكفير بالذنوب مطلقاً سواء أكانت مما يكفر بجنسه عند أهل السنة والجماعة (الجمهور) أم لا، ويقولون - أي الخوارج - بخلود صاحبها في النار أبد الآباد إذ من دخل النار لا يخرج منها مطلقاً. 

وبهذا نرى أنهم ألغوا الكثير من نصوص الشريعة، إذ لم يأخذوا إلا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد وانهدم تبعاً لذلك الجمع بين ما ظاهره التعارض من النصوص، خاصة ما جاء في الوعد والوعيد(39).

والأصل في هذا عندهم أن نصوص الوعيد محمولة على الاستقلال بإفادة الحكم الذي تتضمنه دون النظر إلى أدلة أخرى خارجة عنها مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(40).

فإنهم لا يقيدون الإطلاق في هذه الآية ونحوها من نصوص الوعيد بقوله تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(41).

فإنه ظاهر من مذهبهم أن المغفرة لما دون الشرك إنما تكون للمؤمن بعد التوبة هذا هو الظاهر من كلام بهجة الأنوار المتقدم الذكر(42) فإنه يلوح منه أن المحاسبة للمؤمن المقصر التائب هي ثمرة فهمهم لآيات الوعد الكريم من الله الوارد في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع طعنهم في الأحاديث التي لا ترد عن طريق أهل ملتهم ولا يقبلون من الإجماع إلا الإجماع الحاصل قبل خلافهم على - رضي الله عنه -. هذا أهم أصل خالفوا فيه أهل السنة في أمر التوحيد.

أما في الجانب الفقهي فإن لهم اجتهاداتهم الخاصة ومن ذلك أنهم لا يرجمون الزاني ولا يقبلون في الجملة ما ورد من اجتهادات عن كبار الصحابة بعد الفرقة التي كانت زعامتها فيهم نعوذ بالله من الفرقة عن الحق والتفرق عن أهله، ولهم مفاهيمهم الفقيهة الخاصة بهم.

وأما الشيعة:

فكان لانفرادهم في نزعتهم سوء ظنهم بمن يخالفهم في التشيع، الأثر العميق في الاجتهاد الفقيه، وذلك أن الفقه عندهم وإن كان يعتمد على الكتاب والسنة - أصلاً - إلا أن منهجهم في الاستنباط يخالف مذهب أهل السنة والجماعة من وجوه:

أحدهم: كونهم لا يقبلون من الأحاديث ولا من الأصول أو الفروع شيئاً إلا ما كان عن طريق أئمتهم مهما كانت درجته من الصحة.  

الثاني: أنهم ما كانوا يرون الأخذ بالإجماع أو استعمال الرأي، وقد نرى في بعض كتبهم القول بالإجماع يشرط أن يكون فيهم المعصوم وتلك خديعة حاذقة، ذلك أن مبنى هذا أن عدم وجود الإمام المعصوم مفسد للإجماع، فوجوده إذاً هو المعتبر دون غيره إذ لو أجمعت الأمة كلها على مر عصورها وتعاقب أجيالها ولا يكون في الأمة أي جيل هذا المعصوم فلا عبرة بإجماعها(43).

فاعتقادهم العصمة في أئمتهم وسوء الظن بغيرهم جعلهم لا يعتدون بخيار الأمة من الرعيل الأول - رضي الله عنهم - في إجماع ولا في رأي ولا في نقل حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا كان مذهبهم أن الأخذ من الكتاب والسنة إنما يكون عن طريق أئمتهم فهماً ونقلاً.

الثالث: أنهم كانوا يفسرون القرآن الكريم تفسيراً يتفق ومبادئهم - ولا يأخذون بتفسير غيرهم ولا بما يعتمد على حديثه لغير أئمتهم(44).

ومن الواضح أن مسلكهم هذا أوجد مفاهيم شاذة عن الجادة التي عليها جمهور المسلمين وحملهم على نبذ الكثير من الأحاديث القوية والآراء السديدة وليس لذلك من سبب سوى أنها عن غير الشيعة.

ومخالفتهم فيما خالفوا فيه من أصول استتبع مخالفتهم لأهل السنة في كثير من الأحكام منها:

نكاح المتعة فهم لا يرون فيه بأساً بل هو جائز إلى يوم القيامة بل يرونه قربة إلى الله ويستشهدون لذلك بظاهر قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن}(45) ويقول بعض أئمتهم: ليس منا من لم يستحل المتعة. والآية عند كافة أهل السنة والجماعة على ما استقر الأمر أخيراً عليه فهي عندهم محمولة على النكاح المعروف(46) وما يجب للزوجة من المهر كاملاً، وقد صحت السنة بالنهي عن نكاح المتعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وممن روى النهي عن نكاح المتعة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أمير المؤمنين على بن أبي طالب حيث قال:

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، وفى رواية: ((نهي عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأنسية)) متفق عليه.

وهذا مثال على ما خالفوا فيه الجمهور ولهم مخالفات عديدة ولهم كتبهم في الفروع والأصول تخدم مذهبهم وهنالك يمكن لنا أن نطلع على العديد من الصور والمسائل التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة.

وما عدا الشيعة والخوارج ومنهج سبيلهم من الفرق المخالفة لأهل السنة، ما عدا هؤلاء هم الجمهور: أهل السنة والجماعة من المسلمين.

ومذهبهم قبول الأخذ بما صح من الأحاديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسب ضوابطَ وأصولٍ وضعوها لمعرفة الصحيح من غيره.

هذا التفرق السياسي ووجود الفرق به هو السبب الأول للتأثير على الحركة الاجتهادية في هذا لدور على نحو ما أشرنا إليه.

أما السبب الثاني: لذلك، فإنه يرجع إلى اتساع رقعة الخلافة وانتشار الصحابة في الأمصار والمدن وذلك في عهد عثمان - رضي الله عنه(47) - وقد صاحب هذا التوسع في الفتوحات إذن الخليفة عثمان - رضي الله عنه - للصحابة في الانتشار وسكنى البلاد المفتوحة، فتفرقوا في الأقطار واستوطنوها عمالاً ومعلمين ومرابطين وكانت الأمصار متعطشة لمعرفة دين الإسلام والاستفادة من علومه على أيدي تلامذة المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم -، فتدفق الناس على الصحابة كل في بلده ومدينته يستفتونهم ويروون عنهم مسموعاتههم من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعلمون منهم العلم.

ومن المسلََّم به أن الصحابة لم يكونوا في المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في الفهم سواء، كما أن الأمصار المفتوحة لم تكون متفقة عاداتها - ولا أعرافها ولا نظمها الاجتماعية والاقتصادية ولا طرقها في العيش والتعامل. فإذا انضاف إلى هذه الاعتبارات بعد الشقة بين عاصمة الخلافة والبلدان المفتحة وصعوبة المواصلات والاتصالات بين علماء الصحابة في شتى هذه المدن والأمصار ليستفيد بعضهم من بعض. فإنه من السهل أن تدرك أن ذلك سينتج عنه اختلاف الاجتهادات والفتاوى الفقهية في المسألة الواحدة بين المسائل الكثيرة. وأن كل أهل قُطْرٍ سيتمسكون بفتاوى علمائهم وأحاديثهم ويعولون على ما جرى عليه عملهم وحكم به قضاتهم لمبلغ ثقتهم بهم وخبرتهم بأحوالهم وسيرتهم فكان للمصريين فتاوى، وللشاميين أخرى، ولليمنيين وسائر المدن غيرها وكان بعد ذلك أن شعر التابعون بأن في الأمصار الأخرى علماً غير علمهم فأكثروا من الرحلة وعملوا على توثيق الروابط العلمية بين الأمصار فكان لذلك أثر لا ينكر في تقليل وجود الخلاف(48).

السبب الثالث: ظهور الوضع في الحديث.

وهذا السبب كان له الأثر السيء في عرقلة تقدم الاجتهاد الففهي وفي صعوبة مهمة الفقيه.

فلقد كان للإسلام أعداؤه المتربصون بأهله - الدوائر من اليهود وغيرهم - ممن تغلب عليهم المسلمون بقوة الإسلام وسلطانه وربما ساعدهم على هذا الوهم كون المسلمين يعتمدون على حفظهم في الصدور ما يروونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سنته القولية، أو الفعلية، أو التقريرية، طيلة بعثته في الثلاث والعشرين سنة؛ فما عليهم إلا أن يختلفوا من الأقاويل التي تخدم مآربهم ما ينسبونه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديثاً طمعاً في استرداد ما ضاع منهم من مجد وجاه ودولة. عن طريق تحذير المسلمين بما يضعونه من أحاديث.

فأما الكتاب العزيز فلحفظ الله إياه حفظاً من مظاهر انتشاره بين المسلمين وتلقيه عن طريق الكواف من الأئمة كانوا على يقين أنهم لن يجدوا سبيلاً لتضليل الناس فيه. فعمدوا إلى تكوين الجمعيات المخبرية وكان أول جمعية سرية بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم ظاهراً ليتمكن من الدس والتنكيل بالمسلمين فلما ظهر أمره اختفى وصار إلى تنظيم النشاط المخرب سراً(49).

ومما لا ريب فيه أن هذه الحملة الشريرة تمادت حتى استطاعت أن تُروِّج لمفترياتها في كل باب من أبواب العلم في الإسلام.

فوجدت أحاديث في الأسماء واصفات للباري - تبارك وتعالى - تتضمن تشبيه الباري بالحوادث وتعطيله(50)، وفي باب العبادات أحاديث تتضمن من البدع ما يحرف السالك عن الصراط السوي، وأحاديث في باب الحلال والحرام حتى كثر الوضع كثرة مزعجة مروعة بتصدع الوحدة الإسلامية وظهور الفرق الدينية، فاستباح الشيعة لأنفسهم أن يضعوا الأحاديث التي تؤيد مذاهبهم وكذلك الخوارج وكثرت بعد ذلك الأسباب الحاملة على الوضع، ومما يدل على مبلغ الوضع في هذا الدور: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو المعروف بالرغبة في جمع الحديث والجد في طلبه يقول فيما يرويه مسلم ((إنما كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه)).

وفي رواية عنه: (( إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما إذا ركبتم كل صعب وذلول فهيهات))(51).

وعن مجاهد قال: جاء بشير العدوى إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ابن عباس لا يأذن(52) لحديثه ولا ينظر إليه فقال يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع فقال ابن عباس: ((إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف)).

وعن ابن أبي مليكة. قال: كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابًا ويخفى عني(53) فقال: "ولدٌ ناصح أنا أختار له الأمور اختيارًا أو أخفي عنه". قال" فدعا بقضاء على فجعل يكتب من أشياء ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضي بهذا على إلا أن يكون ضل".

وقال طاووس: "أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي - رضي الله عنه - فمحاه إلا قدر - وأشار سفيان بن عيينة - (أحد رواة الخبر) - بذراعه"(54).

وعن أبي إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي - رضي الله عنه - قال رجل من أصحاب علي قاتلهم الله. أيَّ علم أفسدوا.

وقال النووي(55) على قوله: "قاتلهم الله أيَّ علم أفسدوا" أنه إشارة إلى ما أدخلته الروافض والشيعة في علم علي - رضي الله عنه - وحديثه وتقولوه عليه من الأباطيل وأضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة والمختلفة وخلطوه بالحق فلم يتميز ما هو صحيح عنه مما اختلفوه(56).

وإذا كان الزنادقة والمتربصون بالإسلام من أهل سائر ملل الكفر قد طوع لهم كفرهم وأطماعهم وأحقادهم أن يختلقوا ما اختلقوا من أحاديث قذفوا بها في نحور الأمة الإسلامية علهم يصيبون منها مقتلاً لتدور لهم الدائرة بعد أن هُزموا بفكر الإسلام وسيفه، فإن هذا المنكر لم يقف عند حد هؤلاء بل قد سلك مسلكهم بعض الجهلة المتسمين بسمة الزهاد فوضعوا أحاديث في أبواب الترغيب والترهيب فقالوا كذب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نكذب عليه وما دروا أن هذه طامة الطوام ودويهية أصفر الأنامل إذ يتضمن هذا - إلى جانب استحلال الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو غاية الحرام - اتهامه بالتقصير في الإبلاغ حتى جاؤا يكملون ما به أخل ويتممون ما نقص ويكذبون قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}(57).

فتلاقى على هذه المكيدة حقد ومكيدة الكافرين، وجهل وغباوة الجاهلين ومما لا شك ولا افتراء فيه أن ذلك الجهل في الأغبياء ثمرة من ثمرات أولئك الزنادقة.

وقد ظهر بما تقدم بعض الأسباب الحاملة على الوضع ويمكننا أن نجملها لك في سطور:

1 - العداوة الدينية:

لقد رأينا كيف أن ابن سبأ اليهودي وأضرابه تستروا بالإسلام وأخفوا وراء التشيع أغراضهم الدنيئة وتذرعوا بإظهار حب آل البيت ليدسوا على المسلمين ما أرادا به أن يطفئوا نور الله، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - وعد بأن يخيب آمالهم ويتم نوره مهما حاولوا إطفاءه.

2 - التعصب المذهبي:

وذلك أن بعض الفرق المنتمية إلى الإسلام كان يدفعها غلوها في تأييد ما تذهب إليه إلى وضع أحاديث تشهد بصحة ما ترى. قال الحاكم أبو عبد الله: "كان محمد بن القاسم الطائكاني من رؤساء المرجئة يضع الحديث على مذهبهم".

3 - متابعة بعض ما يستمون بسمة العلم لهؤلاء الأمراء والخلفاء يضعون لهم ما يعجبهم رغبة فيما في أيديهم كالذي حكى عن غياث بن إبراهيم أنه دخل على المهدي بن المنصور وكان يعجبه اللعب بالحمام فروي حديثًا: ((لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح)) فزاد كذباً أو جناح فأمر له المهدي بعشرة الآف درهم فلما قام ليخرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "جناح" ولكنه أراد أن يتقرب إلينا.

4 - تساهل بعضه في باب الفضائل والترغيب والترهيب كالذي روى في فضائل القرآن سورة سورة.

5 - تغالي بعض الناس في أنهم لا يقبلون اجتهادات الصحابة وغيرهم فدعا ذلك بعض الوضعة إلى أن يعمد في كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم.

تكفل الله عزَّ وجلَّ بحفظ كتابه يشمل حفظه سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -:  

إذا كان أعداء الإسلام قد أدركوا ما يرومون بوضع بعض المفتريات ونسبوها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المسلمين ضياع سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بين المفتريات والأباطيل؛ فإن الله - عزَّ وجلَّ - قد تكلف لحفظ كتابه. والسنة تفسير الكتاب وبيانه. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (58) ولا يتم بيان التنزيل بسنة ضائعة بين ركام الكذب، ومن أجل ذلك قيض الله من أذكياء العالم ما أهَّلَهم لهذه المهمة فقاموا لله يذبون عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فبينوا بالتمحيص والتنقيب ونبذ الزائف وتحقيق الحق ما تحقق به وعد ربنا فإنه - تعالى - لا يخلف الميعاد.

ومن ذلك الوقت تكون فرع من فروع علم الحديث هو علم الجرح والتعديل وقد أجهد أئمة هذا العلم أنفسهم وتعقبوا الوضاعين وفضحوا عملهم وحذروا من كل واحد باسمه ولم يقبلوا مما حدثوا به شيئاً وبينوا أعيان الأحاديث التي وضعوها والأغراض التي حملتهم على الوضع حتى سلم الله الشريعة بفضله ومَنِّه من كيدهم.

وقد بدأ الكلام في الجرح والتعديل من عهد صغار الصحابة فقد رُويَتْ أقوال في ذلك عن عبد الله بن عباس - كما أسلفنا - وعن عبادة بن الصامت وأَنَس وكثُر القول في ذلك من التابعين ومن أقوالهم ما نذكر لبعضهم فيما يلي.

1 - قال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وقال أيضاً: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف.

2 - وحدث أبو عقيل صاحب بهية قال: كنت جالساً عند القاسم بن عبد الله، ويحيى بن سعيد فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين. فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج أو علم ولا مخرج فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى ابن أبي بكر وعمر قال: يقول له القاسم: أقبح من ذلك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. قال فسكت فما أجابه.

3 - قال يحيى بن سعيد: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالكًا وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث فيأتيني الرجل فيسألني عنه قالوا: أخبر عنه أنه ليس ثبتًا.

4 - وقال شعبة: لقيت شرهاً فلم أعتد به يعني شهر بن حوشب أبا سعيد ويقال: أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن وأبو الجعد الشعري الشامي الحمصي وقيل: الدمشقي(59).

وقد ذكر جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في شرح تقريب النواوي المسمى بتدريب الراوي ضوابط في الوضع وأقسام الواضعين فذكر من الأول:

1 - الإقرار بالوضع من الواضع وذكر خلاف الأصوليين في ذلك.

2 - معنى إقراره كأن يحدث بحديث عن شيخ ويسأل عن مولده فيذكر تاريخاً لعام وفاة ذلك قبله ولا يعرف ذلك الحديث إلا عنده.

3 - قرينة في الراوي أو المروي وذكر من ذلك طول الأحاديث مع ركة لفظها ومعانيها.

قال الربيع بن خثيم: إن للحديث ضوءًا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره. إلى أن قال: أو يكون خبراً عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع ثم لا ينقله منهم إلا واحد. ومنها الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير أوا لوعد العظيم على الفعل الحقير وهذا كثير في حديث القصاص والأخير راجع إلى الركة وقال) قلت: ومن القرائن كون الراوي رافضيًا والحديث في فضائل أهل البيت.. إلخ(60).

وذكر للوضع أقساماً فقال: والواضعون أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه احتسابا للأجر عند الله في زعمهم الفاسد فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركونًا إليهم لما نسبوا إليه من الزهد والصلاح.

وذكر كلاما ليحيى القطان هنا منه: ولكن الواضعون منهم وإن خفى حالهم على كثير من الناس فإنه لم خف على جهابذة الحديث ونقاده وقد قيل لابن المبارك هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. 

ومن أمثلة ما وضع حسبة: ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة. وكان يقال لأبي عصمة هذا: نوح الجامع. قال ابن حيان: جمع كل شيء إلا الصدق... إلخ.

الضرب الثاني: قوم كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون به في قصصهم كأبي سعيد المدائني.

الضرب الثالث: أرباب النحل والمذاهب البدعية كالكرامية نسبة إلى محمد بن كرَّام بتشديد الراء السجستاني المتكلم.

الضرب الرابع: وضع الزنادقة فقد وضعت جملاً من الأحاديث ليفسدوا بها الدين.

روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال: وضعت الزنادقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر ألف حديث منهم عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قتل وصلب في زمن المهدي(61).

ومما تقدم يتضح أن الوضاعين وإن لم يبلغوا مأربهم من الدين لمناهضة العلماء لهم ومقاومتهم إيَّاهم إلا أنهم قبحهم الله - إلا من تاب إلى رشده منهم - وضعوا في طريق المجتهدين ما عرقل سيرهم وجعله بطيئاً وعسيرًا فبعد أن كان الفقيه لا يشغله شاغل بعد سماع الحديث عن النظر فيه والاستنتاج منه وهو واثق مطمئن أصبح واجباً عليه أن يُعني قبل كلِّ شيء ببحث الحديث متنًا وإسنادًا والتثبت من صحتهما، حتى إذا تبددت غياهب الشك حل له أن ينظر ويستنبط فلا يبلغ ما يروم إلا بعد جهد ومشقة وطول عناء.

أما السبب الرابع: من الأسباب التي كان لها الأثر في الاجتهاد في هذه الفترة فهو انقسام العلماء:

شاء الله - عزَّ وجلَّ - أن ينقسم جمهور الأمة الذين سلمهم الله من بدعتي الخروج والتشيع إلى أهل حديث وأهل رأي.

وذلك نتيجة لما سلكوا في الفقه، فجماعة: امتازت بشدة الاشتغال بالنصوص والآثار والتمسك بها، وآخرون: امتازوا بالتوسع في استعمال الرأي. ومن هنا نشأت تسمية الفريق الأول بأهل الحديث، وتسمية الفريق الثاني بأهل الرأي.

وكان الفريق الأول بالحجاز(62) وزعيمه سعيد بن المسيب القرشي؛ إذ رأى هو وأصحابه أن أهل الحرمين الشريفين أثبت الناس في الحديث والفقه، وأعلمهم بفتاوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فأكب على حفظ ما بأيديهم من الآثار ورأى أنه بعد هذا في غنية عن استعمال الرأي.

أما الفريق الثاني فكان مركزه العراق وعلى رأسهم: إبراهيم النخعي(63) وطريقتهم مبنية على أن أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى العباد. ذات أصول محكمة وعلل ضابطة لتلك المعاني والحكم فكانوا يبحثون عندها المعاني والعلل ويستجلون الحكم التي شُرعت الأحكام لأجلها حتى يستقر عندهم دوران الحكم معها وجودًا وعدمًا.

وربما رد بعض هذا الفريق شيئاً من الأحاديث إذا لم تتمش مع تلك الضوابط والأصول لأن تلك الأصول الضوابط عنده تبلورت من جملة نصوص، والنص الواحد لا يقاوم العدد.

أما الفريق الأول فكان بحثه عن النصوص أكثر من بحثه عن العلل إلا فيما لم يجد فيه أثراً.

ويرجع شيوع الرأي في العراق إلى:

أولاً: أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - هو أستاذ في هذه المدرسة، وقد كان من المتأثرين بعمر بن الخطاب في الاجتهاد الفقهي الذي اعتمد على استعمال الرأي، فكان تأثير ابن مسعود على مدرسته أمرًا طبيعيًا.

ثانياً: أن العراق منبع الشيعة ومقر الخوارج فقد شاع فيها الوضع في الحديث فاشترط علماؤها شروطًا لقبول الحديث لا يسلم معها إلا القليل فإذا ضم إلى هذا اكتفاؤهم بمروي نزلاء العراق من الصحابة من الحديث كان المعول عليه من الأثر قليلاً فلا مندوحة لهم حينئذ من التوسع في الرأي.

ثالثا: أن المسائل التي يُحتَاج إلى تعرف أحكامها في العراق أكثر وأعقد منها في الحجاز؛ إذ كان الحجاز بمنأى عن تلك النشاطات الفكرية والاجتماعية التي ماج بها العراق لما جد من حركة التشيع والخروج مع ذات طبيعة أهله، وهذا بلا شك مع قلة المعول عليه من الأحاديث، عامل قوي في التوسع في استعمال الرأي.

ولقد كان الفقه في مدرسة الحديث واقعياً فلم يفرضوا المسائل ويقدروا لها أحكامها، أما في مدرسة الرأي ففي أول الأمر كان واقعيًا ثم ما لبث أن اتجه إلى الفروض والتقديرات خصوصاً حين وضعوا الضوابط والقواعد ليفرعوا عليها.

تلك أهم أحداث هذه المرحلة ومنها اتسعت دائرة الخلاف مما يتعذر معه الإجماع إلا ما كان اتفاقًا.

هذا وقد انقضت هذه المرحلة دون أن يدون فيها شيء من العلوم بصفة ذاتية ولم تتكون فيها مذاهب معينة: فهي تشبه المرحلة السابقة من تلك الناحية وتخالفها من جهة كثرة الاختلاف وتشعب الآراء للأسباب التي ذكرت.

الطور الثالث من أطوار الاجتهاد الفقهي:

أ - الربط بين هذا الدور والدور الذي قبله.

ب - بدء نشوء مدرستي الظاهر والرأي.

جـ - التغيرات التي طرأت في هذا الدور على الاجتهاد الفقهي وأسبابها.

د - تدوين أصول الفقه.

هـ - منهج الشافعي في الرسالة.

و - أصول الفقه بعد الإمام الشافعي - رضي الله عنه -.

ر - التدوين لأصول الفقه من نهاية القرن الرابع إلى آخر القرن الرابع عشر الهجري.

ح - طريقة المتكلمين في تأليف أصول الفقه ومؤلفاتها وخصائصها.

ط - طريقة الفقهاء في تأليف أصول الفقه ومؤلفاتها وخصائصها.

ي - المؤلفات الجامعة للطريقتين.

الطور الثالث للاجتهاد الفقهي من أول القرن الثاني إلى الآن:

أ - الربط بين هذا الدور والذي قبله:

ظل الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن لحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى ملتزمين المنهج الذي تركهم عليه هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الفتوى والقضاء والإجابة عن الأسئلة التي كانت تعرض عليهم حتى كان واقعهم - رضي الله عنهم - بمثابة العرض الأمين لما كان عليه الحال في عهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - سواء في ذلك ما يتصل بشؤون العبادة وما يتصل بشؤون العباد في حياتهم اليومية على وجه يزيل الحرج ويضمن المصلحة التي جاء بهذا هذا الدين.

ولقد اتسعت الدولة، وامتد الفتح، وتعددت الأفعال، وتنوعت التصرفات، ومع ذلك فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - إذا عرضت الوقائع عليهم أفتوا فيها بمعاني النصوص، وبمقتضى الإشارات، والإيماءات، والاقتضاءات، والضرورات، وبطريق القياس والاستحسان، والمصالح، وسد الذرائع والاستصحاب، والأخذ بالقرائن، والاهتداء بالأمارات، وبما وقَر في نفوسهم من الثقة بالمروِّي وبما شرطه أحدهم في الحديث من شروطٍ خوفًا من الكذب والغلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء مخصصاً أو مقيداً أو مفسرًا، وقد انعكست هذه الطرق على الكيفيات والصور وغطت الاجتهادات أفعال الناس بالأحكام.

وهكذا استمد العلم المعاني اللغوية والعربية والمعاني الشرعية المفهومة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعلومة من النصوص في قلوب التابعين بعد الصحابة فامتلأت وتقدم الحقيقة على التجوز، ودلالة النص على الفهم بالرأي والمحكم على المفسر والمفسر على المحتمل الظاهر.

ب - بدء نشوء الأخذ بالظاهر والمعنى - أو مدرستي الظاهر والرأي:  

وأخذ التابعون من قصة بني قريظة علماً بجواز سلوك ظاهر النص، وجواز البحث عن المقاصد والأسرار فوُجِد بذلك طريقان أو مدرستان:

مدرسة غلب على أهلها تقديم النصوص وكثرة الاعتماد في الاستنباط على أصلها لعدم الحاجة إلى الرأي بسبب قلة الحوادث وكثرة النصوص والثقة بصدقها لعد الكاذبين الضالين هناك، وأهل هذه المدرسة هم أهل الحديث أو أهل المدينة كما سلفت الإشارة إلى ذلك.

والثانية: تكثر من الاجتهاد بالرأي وتشترط شروطًا كثيرة وشديدة لقبول الحديث لا يسلم معها إلا القليل.

وينجم هذا من حال البلد الذي يعيش فيه هذا العالم وحال الصحابي الذي اختار هذا البلد مسكنًا له حين هاجر من الحجاز، وما عليه أهل البلد من أعراف في شؤونهم المختلفة.

وبذلك تأسست المدارس الفقهية الإسلامية.

وفي كل مصر كان علماء من الصحابة والتابعين وأئمة بعدَهم لهم لغتُهم وعلمُهم وروايتُهم وآراؤُهم وتلاميذُهم، ومع هذا وسعت مبادئ الشريعة والاجتهادات والآراء حتى عمت رحمتها وعدالتها كلَّ الناس.

ولا ريب أنه كلما كان العهد قريبًا بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته ومعاني التنزيل التي شرحها والفتاوى والأحكام التي صدرت منه كانت الأحكام التي تؤسس على هذا المنهج على كمالها: علمًا وحفظًا وفهماً وسنة وعربية وخشية من الله - عزَّ وجلَّ - هي النبراس الذي يضيء الطريق والهادي الأمين إلى الحياة الشرعية التي يريد الله - تعالى - أن يكون عليها البشر في هذه الدار.

جـ - التغيرات التي طرأت على الاجتهاد الفقهي في هذا لدور وأسبابها:

وقد حدثت في هذا الدور الذي نكتب فيه تغيرات طرأت على الاجتهاد الفقهي نلخص بعضًا من ظواهرها فيما يلي:

أولاً: عناية الخلفاء العباسيين بالفقه والفقهاء فقد كانوا لا يقصرون همهم على النواحي السياسية وحسب كما كان الشأن في العهد الأموي، بل كان اهتمامهم بالفقه والفقهاء يتخذ أشكالاً متعددة، فمنهم من يدني الفقهاء ويؤثرهم بخاصته كأبي جعفر المنصور، ومنهم من يتعقب الزنادقة ويشتد في تعذيبهم حتى أنشأ دائرة متخصصة للبحث عنهم والتنكيل بهم(64).

وكان الرشيد يخص أبا يوسف بالصحبة والملازمة، والمأمون يشاطر العلماء الجدل العلمي ويستنهض همهم إلى النقاش الحاد ويثير القول بخلق القرآن، تلك الفتنة العمياء التي كانت نكتة داكنة في تاريخ المأمون لن تنسى مهما كانت محاسنه. وامتحن فيها علماء سلف الأمة وأئمتها وكان أشدهم أذى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - حيثُ عُذب عذاباً لم ينله أحدٌ قبلَه وكان صابرًا محتسباً ثابتًا على الحق.

وقد كان لهذه العناية من الخلفاء الأثر الواضح في التشريع إذ اتسع مجال الفقه، وغدا المحور الذي تدور عليه وحوله شؤون الدولة في جميع المجالات؛ فكتاب الخراج لأبي يوسف من ثمار هذا النشاط وقد عالج أبو يوسف فيه كل ما يتعلق بجباية الأموال.

بل إن الأمر تجاوز معالجة واقع الناس إلى افتراضِ المسائل وتقديرِ أحكامٍ لها حتى تضخم الفقه ونما نموًا عظيماً شاهدُه ما حفلت به المدونات الفقهية في ذلك العصر.

ثانياً: اتساع الجدل وشيوع الخلاف:

لقد امتازت هذه الفترة ببلوغ الجدل فيها أشده واتساعِ مداه لكثرة العلماء وانفراج الحياة الاجتماعية عما كانت عليه من قبل والتوسع في الرأي، والاعتماد عليه في القياس واستمداد أساليب الجدل من المنطق. وكان الجدل بين العلماء يدور حول تحديد معاني الألفاظ اللغوية وحمل الكلام على الحقيقة أو المجاز حول الكتاب بالسنة والعكس وعمل الصحابي أهو حجة أم لا؟ والقياس ومداه ومتى يصح ومتى لا يصح إلى غير ذلك مما يعتمد عليه الفقيه في الاستنباط واستخراج الأحكام.

ومما يؤكد لنا شغف القوم بالجدل والمناظرة أن كل مكان يلتقي فيه العلماء تدور بينهم المناقشات الجدلية والنظرية سواء في حلقات الدروس، أو (أم) المنازل أو (أم) في المساجد أو (أم) في مواسم الحج أو (أم) غيرها بالمكاتبة أو المشافهة، واقرأ من أوثق المدونات في أوائل هذا العصر: الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي الرسالة، أيضاً تجد أثر هذا الأسلوب جلياً واضحًا في تأليفهما، واقرأ ما شئت سواهما من كتب هذا العهد التي زخرت بتلك المناظرات حتى كانت مرآة صافية تعكس عقلية أولئك العلماء وقوة ذهنهم وقدرتهم على التركيز لما يفهمونه من الأحكام وحتى ساعدت المتأخرين على معرفة وجه الرأي بين أسلافهم، وهدتهم إلى مآخذ الحكم عند كل فريق، وكان غذاء للروح العلمي فيما بعد، غير أن تلك المناظرات لم تُنْقَلْ كلُّها إلينا على حقيقتها بل تناولها المتأخرون بالتحوير والتحريف بل ربما اختلقوا مناظرات ونسبوها إلى الأولين ترويجا لمذاهبهم واستجابة لداعي العصبية المذهبية.

من سيئات الجدل في هذا الدور:

بعد أن كان الجدل يقصده العلماء للوصول إلى الحق فحسب، أصبح في هذا الدور يستخدم كثيراً لمجرد التغلب على الخصم، وتزييف مذهب المخالف حتى انحرف عن السنن وحُشِدَ فيه مالا يتصل بجوهر الموضوعات ولذلك نرى كثيراً مما وصل إلينا غريباً على العلم وزائدًا عن الحاجة.

ثالثا: اتساع الدولة وكثرة الوقائع

ضمن الدولة الإسلامية في هذا العهد شعوباً وأممًا مختلفة في الدين والحضارات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية وطرق المعيشة وفى أنواع كثيرة من المعاملات؛ ففي العراق سادت العادات الفارسية والقبطية وغيرها، فمن دخل في الإسلام عرض ما قد كان عليه قبل الإسلام على أبي حنيفة مثلاً وفى الشام عرضت الأوضاع الرومانية ونظم القضاء الروماني وقضاياه على الأوزاعي(71) وفي مصر عرضت العادات المصرية والرومانية والإغريقية على الليث بن سعد.

وقد عمل هؤلاء الفقهاء وغيرهم على تمحيص ما عرض عليهم فأقروا بعضه وعدلوا بعضه وأنكروا بعضه على ضوء ما عندهم من علم شرعي حتى غدت الحياة العامة في كل إقليم ومصر مصطبغة بالصبغة الإسلامية.

ومما ساعد على تقريب وجهات النظر بين المجتهدين في هذا العصر أن كل قطر من الأقطار المفتوحة وُجدت فيه أحكام لم تكن موجودة في غيره نظراً لاختلاف البيئات والفوارق الإقليمية فلقد أحس العلماء في كل إقليم بحاجتهم إلى التعرف على ما في الإقليم الآخر من اجتهادات فقهية فنشأت الرحلات العلمية فالشافعي رحل إلى المدينة والعراق ومصر. وربيعة الرأي رحل إلى العراق، ورحل محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى المدينة ورحل أحمد بن حنبل إلى الحجاز وإلى اليمن فآتت هذه الرحلات ثمراتها في إزالة كثيرٍ من أوجه الخلاف وأشعرت كلاً بحاجته إلى ما عند غيره من العلم والفقه.

رابعاً: نمو الحركة العلمية

كان بدء هذه الحركة في أواخر الدور السابق، لكنها في هذا الدور نمت نمواً عظيماً بوصول المدينات القديمة إلى رؤوس المفكرين من علماء المسلمين وقد ساعد على وصول هذه المدنيات عوامل أهمهما:

أ - ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى لغة العرب: ولم تبلغ الترجمة شأوها إلا في عهد المأمون بن الرشد في القرن الثالث من الهجرة إذ كان مغرماً بالآداب اليونانية وبآراء أرسططاليس على وجه خاص ولقد انتشرت هذه الكتب انتشاراً هائلاً فكانت العاملَ المهم في تكوين معلومات أهل الكلام.

ب - الموالي فقد دخلوا في الإسلام بأعداد عظيمة من الفرس والروم والمصريين. فمنهم من أُسِرَ صغيراً وتربى تحت كنف سادته من المسلمين فورثوا ما عندهم من العلوم الإسلامية التي أساسها الكتاب والسنة فحملوا عنهم شيئاً كثيرا وكان منهم القراء الكبار والمحدثون بجانب إخوانهم من العرب.

ومنهم من دخل في الإسلام وهو كبير فكان من نتيجة ذلك تلاحم الأفكار وإنضاج العقول.

خامسا: التدوين(72)

سوف نُعني ههنا بما يتصل بالتدوين لأصول الفقه إذ هو الموضوع الذي عقدت هذه الدراسة التاريخية من أجله.

أما التدوين من حيث هو فحسبنا أن نشير إلى أن عمر بن عبد العزيز(73) الخليفة الأموي - رضي الله عنه - كتب قبل موته بسنة إلى عامله على المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: ((أن انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سنته فاكتبه: فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء))(74).

كما أن التدوين من حيث هو تدوين بصرف النظر عن ترتيبه وتنظيمه والاهتمام به على النحو الذي وصل إليه في عهد التدوين الزاهي - كان موجوداً على حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد خرّج أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص حين نهته قريش عن كتابة كل ما يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضا فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اكتبه فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)).

وقد جمع العلماء بين نهيه(75) - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة وأمره ثانياً بها: بأن النهي كان قبل أن يميز الصحابة بين ما هو قرآن وبين غيره من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما تميز عندهم زال المحذور فأذن - عليه الصلاة والسلام - بالكتابة عنه.

وأرى من المفيد أن نمر بالقارئ على موجز ما ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - (76) حيث ذكر أن آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة، وعلل ذلك بأمور ثلاثة:

1 - نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.

2 - سعة حفظهم وسيلان أذهانهم.

3 - ولأن أكثرهم لا يعرفون الكتابة(77).

ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار وعلل ذلك:

1 - بانتشار العلماء في الأمصار.

2 - ظهور فرق المبتدعة من الخوارج والروافض والمعتزلة.

ويبين أن أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح(78) وسعيد بن ابي عروبة(79) وغيرهما.

وكانوا يصنفون كل باب على حدة. إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة (وأهل هذه الطبقة هي التي اصطلحنا على ادماجها ضمن فئات الدور الرابع من أدوار الاجتهاد الفقهي) فدونوا الأحكام. فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.

وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح بمكة وأبو عمر وأبو عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي بالشام وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري(80) بالكوفة وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة.. إلخ.

هذه إشارات عابرة إلى بداية التدوين وتطوره أرجو أن يطلع منها (فيها)القارئ على ما يهديه إلى نشأة هذا النشاط واهتمام السلف الصالح به.

                                               المصدر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد 15، ص88-138

0 تعليقات:

إرسال تعليق