2011/03/14

الخلاف العالي عند مالكية مصر


  كانت مصر أولا بيئة فقهية مالكية. لم يعرف الخلاف العالي  فيها جدلا حاداً، ولا حجاجاً ظاهراً. بل كان قائما على الآثار والفقه. 
ولما قدم الإمام الشافعي مصر سنة 200 ونشر مذهبه الجديد بين أهلها هز ذلك أتباع المذهب المدني فانقسموا بين من استفاد من الشافعي واقتبس. 








 ومن تبعه وتحول إلى مذهبه، وهناك من تعصب لمالك عليه، فحدثت خطوب و مطالبات بين الفريقين مما جدد للمالكية مناهج النظر فنبع فيهم محمد بن عبد الحكم 268هـ وهو أحد رموز الخلاف والجدل... ودخل القاضي بكار بن قتيبة 245 هـ  والإمام الطحاوي 321هـ مصر فملأها مناظرة وحجة وتصنيفا فنشأت مشاكل وقضايا الخلافات بين المالكية والمذهب الحنفي .
 وفي سنة 361هــ  دخل العبيديين مصر مما أدى إلى فتور علمي طويل للدرس الخلافي المالكي بها. فصار رجل نظار مصر الغرباء الوافدين من العراق والقيروان والأندلس ,فكان لنزول القاضي  عبد الوهاب البغدادي 422 أثر في إحياء الدرس المالكي الخلافي وكذلك نشط مع نزول الإمام أبو بكر الطرطوشي 520 مصر واستقراره بها ,ثم برز بعده الأئمة المصريون الكبار في الخلاف  والجدل، كسند 541 والعوفي، القرافي...

·       مراحل الخلاف العالي عند مالكية مصر:
×     مرحلة ما قبل – دخول الشافعي مصر – محمد بن عبد الحكم:

- طبقة أقران مالك من كبار تلاميذه : أهم الفقهاء الأوائل بتدريس علم المدنية بمصر ,فكان من أوائلهم أربعة رجال: عثمان بن الحكم 163 الذي اعتمد عليه عبد الله بن وهب في الموطأ والمدونة. و عبد الرحيم بن خالد 163 روى عنه الليث وابن وهب وسعد بن عبد الله 173 شيخ العلماء في الخلاف والفقه بمصر. و طليب بن كامل اللخمي، وفي هذا الرحيل يحيى بن أزهر161 وموسى بن سلمة 163 وعبد الحكم بن الليث الذي اعتمد عليه الخلاف بمصر ... فبهؤلاء صارت مصر مالكية , وهم وضعوا أسس الخلاف العالي بها.
- دخل الشافعي  مصر سنة 200 فجاء بمذهب جديد نقض مذهب مالك ورد عليه, ففاجأ العلماء باحتجاجه، فبرز بمصر طوائف من المالكية ناوأت الشافعي وناصبته العداء , كفتيان بن أبي السمح وبعده ابن المنكدر, لكن ذلك لم يستمر فسرعان ما تحول إلى تيار علمي يقوم على الجدل الفقهي والمناظرة المذهبية.

::  علماء الخلاف المالكية المشاهير قبل استقرار الشافعي بمصر:
1- عبد الله بن وهب 125-197 تميز بثلاث ميزات:
أولا  : سعة أخذه من موارد عالية, علم العراق ,علم الحجاز
ثانيا : هو حجة في الخلاف والأثار عند العلماء فال ابن وضاح 286 : « كان أهل الحجاز يحتاجون إلى ابن وهب في علم الحجاز ,وأهل العراق يحتاجون إليه في علم العراق ,وكان عنده علم كثير ».
ثالثا: كان فقيها في الحديث والأثار , قال ابن القيم: « بحكم الحجة وينقاد للدليل».
قال بن عدي : « أدركت الناس فقيها غير محدث ومحدثا غير فقيه, خلا عبد الله بن وهب, فإني رأيته فقيها محدثا ».
لذلك اعتمد العلماء كتب ابن وهب ولتعامله الفقهي مع الخلاف والسنن صار قوله حجة في الرواية وفيما أفتى به مجتهدا ومختارا. قال: « لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت ». لأنه أكثر من الحديث فحيره فكان يعرضه عليهما فيقولان خذ هذا ودع هذا. ألف ابن وهب الموطأ والجامع الكبير وتفسير الموطأ.
2- عبد الرحمان بن القاسم: 128-191 : اكتسب قيمته العلمية من انقطاعه إلى مالك وجمعه لعلمه ورواياته الفقهية وشيء من حديثه  فهو رأس فقهاء مصر ,له اجتهادات خالف فيها مالك ,وقد اقتصر الخلاف  العالي عنده على الموطأ ورواياته عن سفيان لذا لم يبرز فيه وإنما عرف برواية مسائل مالك  فهو حجة عند الخلاف .
  الخلاف العالي عند ابن وهب وابن القاسم ومن سبقهما قبل الشافعي اقتصر على معرفة الآثار والحديث وأقوال العلماء دون الجدل, واستمر هذا  النمط مع سعيد بن كثير 226 وسليمان التجيبي 242 ...

× مرحلة ما بعد دخول الشافعي مصر:  تباينت مواقف المالكية بعد دخول الشافعي على ثلاث مستويات:
  أولا : المتأثرون بالشافعي: من أقرانه رجلان مالكيان شهيران:
1- أشهب بن عبد العزيز 140-204  من نظراء ابن وهب في علم اختلاف العلماء والآثار , تفقه بمالك والمدنيين والمصريين ,اتصل بالشافعي لما فدم مصر وصحبه ,كان الشافعي يصفه بأنه – فقيه – ويقول : " أفقه أصحاب مالك المصريين أشهب " ,وأشهب من علماء الخلاف العالي المالكية.
تأثر كثيرا بالشافعي في مجال المناظرة وأساليب الحجاج ,فكان مائلا إلى الحجة وإن خالفت قول مالك ,فقد سأله أسد بن الفرات عن مسائل  « فأجابه ,فقال أسد من يقول هذا؟ فقال: أشهب هذا قولي...».
وكان أشهب واسع العارضة في المناظرة , قال سحنون : "ما كان أحد يناظر أشهب إلا اضطره بالحجة حتى يرجع إلى قوله ".
كما أنه اهتم بالإحتجاج للمذهب والتدليل له, قال ابن حارث: " لما كملت الأسدية أخذها أشهب وأقامها لنفسه واحتج لبعضها ,فجاء كتابا شريفا ". وللأشهب مخالفات كثيرة لمشهور مذهب مالك كقوله بإجزاء مسح بعض الرأس وعدم الإعادة على من مسح باطن الخفين..
 2- عبد الله بن عبد الحكم 150-214  شيخ مصر وأحد أعيان علماء المالكية الخلافيين المتأثرين بالشافعي , صخب الشافعي وهو أول مالكي حصُل عامة فقه الشافعي ومصنفاته . " كان متحققا بقول مالك ". ألف كتبه من سماعات الشيوخ الثلاثة الكبار, أشهب و بن القاسم وابن وهب وفيها" نحا إلى اختصار كتب أشهب"
  شكلت مختصراته محلا للتعليق والشرح والإضافة لمسائل الخلاف وآراء علماء الأمصار خاصة لدى مالكية العراق
3- إسحاق بن فرات 204  أهم رموز الخلاف العالي في هذه الطبقة, لقي الشافعي ولم يأخذ عنه , أول من تخصص بعلم اختلاف الفقهاء , قال الشافعي : " ما رأيت بمصر أعلم باختلاف الناس من إسحاق بن الفرات ". مات سنة 204, قال الذهبي: " وفيها مات قبله الشافعي, وأشهب بمصر فمثل هؤلاء الثلاثة إذا خلت منهم مدينة في عام واحد فقد بان فيها النقص ".   

ثانيا : المتعصبون على الشافعي من المالكية:
قال الذهبي :"إن الشافعي لما دخل مصر أتاه جلة أصحاب مالك ,وأقبلوا عليه ,فلما رأوه يخالف مالكا,وينفض عليه,جفوه وتنكروا له ". ومن أهمهم:
. فتيان بن أبي السمح : فال الدار قطني: "من كبراء أصحابه المتعصبين لمذهبه ". وقع له ثلاثة مناظرات مع الشافعي انتهت إلى مآل سوء". قال القاضي عياض :"ولعصبيته لمالك ,وإفراطه فيها ,نشأت العداوة بين المالكيين وبين الشافعيين بمصر ".

×           مرحلة محمد بن عبد الحكم:  أزهى حقب علم الخلاف العالي بمصر.

 زكرياء بن يحيى الوقار: 254 ,قال الشيرازي: " كان الوقار يغلوا في مالك ويتعصب له على أبي حنيفة " من صغار المالكية .
يحيى بن المنكدر : من صغار الفقهاء ,ولي القضاء وكانت حاشيته صوفية ,تحفزه حتى وقع في أخطاء كانت سبب عزله رغم نصيحة بن عبد الحكم له.

ثالثا : المتأثرون بالشافعي فيما بعد :
. أصبغ بن الفرج 225: أفقه أهل مصر ,ورمز من رموز الخلاف العالي ,وهو أول من ألف في أصول الفقه من المالكية ,قال ابن اللباد: "ما انفتح لي  طريق العلم لولا أصول أصبغ ".
. أحمد بن صالح 248:  هو أحد كبار المالكية المحدثين الفقهاء, كان " فقيها نظارا " كما قال الكندي، كانت صلته بالشافعي جيدة انعكس تبحره بالحديث وعلمه بالخلاف والآثار على فقهه، فخالف في بعض اختياراته المذهب.
. محمد بن المواز 269:  أخذ عن المصريين والحجازيين واعتمد على عبد الله بن عبد الحكم وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ,لم يدرك الشافعي وأشهب ,كان راسخا في الفقه والخلاف ,صنف الموازية وبنى فيها الفروع على الأصول وهي طريقة الشافعي ,وخصص شطرا منها للرد على الحنفية والشافعي.

رابعا: المتأثرون بالشافعي وذووا الانتماء المذهبي المزدوج:  ومن أهم هؤلاء الأعلام: 
. حرملة التجيبي 266 : من كبارالمحدثيين المالكية بمصر ,أخذ الخلاف والحديث عن ابن عيينة وابن وهب وأخذ عن الشافعي الذي رسخ في مذهبه ,فهو حجة في المذهب الشافعي والمالكي  أيضا لأنه " أعلم الناس بابن وهب ".
. يونس الصدفي 264 : من كبار مالكية مصر وشافعيتها ,أخذ عن ابن وهب الكثير  "وروى عن الشافعي كثيرا" ,والتحقيق أنه شافعي رغم أنه كان مالكيا ,لأنه قاضي القضاة ابن مسكين بمصر عزل لم يعزل معه ,ولو كان على مذهبه لعزل.
. محمد بن عبد الحكم 186-268: هو عالم المالكية المصرية في الخلاف العالي, اجتمع إليه علم مالك والشافعي, بني رأيه على الحجة والاختيار. لزم الشافعي منذ نعومة أظافره. ولم يفارقه وكان الشافعي إذا لم يجده يسأل عنه ويمضي إليه.أخذ محمد عنه الاستدلال والقياس والحجاج. " فال محمد : لولا الشافعي ما عرفت كيف أردَ على أحد ". وأخذ عن ابن القاسم وهو صغير وشعيب بن الليث وأشهب وابن وهب وغيرهم.. قال الكندي:"كان أفقه أهل زمانه وإليه انتهت الفتيا بمصر ". وقد اشتهر محمد بالذب عن مذهب أهل المدينة, فصنف كتابا سماه:"الرد على الشافعي فيها خالف فيه الكتاب والسنة", كما رد على فقهاء العراق, وعرف بإتباع الدليل ويظهر ذلك في احتجاجه لأحكام المذهب حيث ألف أحكام القرآن.ومخالفته مذهبة مالك في مسائل نزع فيها الحجة. 
. إبراهيم بن القسطال وصالح بن سالم الخولاني.
   
×        مرحلة مابين محمد بن عبد الحكم وأبي بكر الطرطوشي (520)
تميزت بدخول العبيديين مصر فقلت وثيرة الدرس الخلافي وانتقل علم محمد بن عبد الحكم إلى افريقية والأندلس ,ولم يحيي الدرس الخلافي وينعشه إلى الغرباء الذين نزلوا مصرا واستوطنوها ,وقد ذكر عياض بعد طبقة ابن عبد الحكم طبقة فقهاء الفتيا لم يكن لها تأثير كبير في الخلاف عدا روح أبو الزنباع.
أما الطبقة الموالية فالذين عرفوا بالخلاف هم: ابن معروف وابن الزيات 306 الذي جلس في مجلس ابن عبد الحكم.وهو الذي أضاف أقوال بعض فقهاء الأمصار إلى مختصر بن عبد الحكم ,وأحمد بن مروان مصنف "المجالسة" وله كتاب " الرد على الشافعي ومحمد بن شعبان -355- رأس فقهاء المالكية بمصر في وقته ,تفنن في سائر العلوم إلا أنه أخذ عليه ضعف في اللغة والرواية ,عرف في الخلاف العالي بتصنيفه لأحكام القرآن ,ولمختصر ما ليس في المختصر.
أبو الذكر التمار -341- : فقيه مصر في وقته ,تولى القضاء ,كان له صيت عند علماء المذاهب الأخرى.
استمر الدرس الخلافي في فتور وتقلص في الفتيا والقضاء إلى سنة 411  حيث أخرج الظاهر العبيدي المالكية من مصر ,إزاء هذا الضعف عول المالكية في درسهم الخلافي على الغرباء ومن أبرز من نزل من العراقيين :
   - بكر بن العلاء القشيري ,344, وأبو الطاهر الذهلي ,367, وأبو جعفر الأبهري ,وأبو الحسن الطابثي،  ومن الأندلس نجد: ابن الطحان 384  وابن الوليد الأندلسي .
   ويعد نزول القاضي عبد الوهاب ,422, مصر حدثا علميا بالغ الأهمية ,فهو الذي أحيى الدرس الخلافي وكان له تلاميذ من أبرزهم : أبو علي الميازري ,وعبد الواحد الجيزي .    
  - الإمام أبو بكر الطرطوشي -520- : شيخ الفقهاء الذين نزلوا مصر من الأندلس، وإمام العلماء الذين أحيوا الدرس الخلافي ,أخذ مسائل الخلاف عن أبي الوليد الباجي وأخذ عن كبار الشافعية ,كأبي بكر الساشي 507 وغيره. ثم نزل مصر، وتميز بثلاث أمور
à  إحياؤه للدرس الخلافي أيام العبيديين.
à  ترك تلاميذ نجباء كبار في الخلاف العالي. 
à  صنف في الخلاف تعليقته الكبرى الشهيرة وأصول الفقه.

×        مرحلة ما بعد الإمام الطرطوشي :  ومن أهم أعلامها :
*  سند بن عنان المصري -541- : من أكبر علماء المذهب في وقته ومن أبرز أئمة الخلاف المالكية ,أخذ عن الطرطوشي ,ألف كتاب في الجدل وشرح المدونة "طراز المجالس".
* أبو الطاهر العوفي -581- : من آخر مالكية مصر في – ق 6 – تفقه في علوم شتى، أخذ عن سند وغيره.
* محمد بن مسلم الصقلي.

0 تعليقات:

إرسال تعليق