2011/03/07

أسباب الاختلاف: الاختلاف بسبب الأدلة المختلف فيها.


     قد يقع الخلاف بين الفقهاء بسبب اختلافهم في اعتبار الدليل نفسه، فينعكس ذلك بالضرورة على الاختلاف في الأحكام المستنبطة منه.  والمذاهب تتفاوت في الأخذ بهذه الأدلة، فالمقبول عند البعض مردود عند الآخر.
أذكر بعض هذه الأدلة والخلاف فيها باقتضاب:

الاستحسان: وهو دليل ينقدح في نفس المجتهد، ويعسر عليه التعبير عنه. وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى. وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس.[1]  وقد اختلف الفقهاء في حجيته، بين القائلين بحجيته به والمبطلين له.
فنسب القول به إلى أبي حنيفة، وحكاه عنه أصحابه، ونسبه إمام الحرمين إلى مالك.[2] 
قال الشيخ أبو زهرة عن أبو حنيفة  >: "أكثر أبو حنيفة من الاستحسان وكان فيه لا يجارى "[3]، وعن مالك > : "تضافرت المصادر التي تثبت أن مالكا > كان يأخذ بالاستحسان"[4]،  أما الحنابلة فتذكر بعض كتب الأصول أن الحنابلة يقولون به كما يقول به الحنفية، ذكر ذلك الآمدي، والتاج السبكي.[5]
أما الشافعية فإن الشافعي شدد النكير على من احتج به. قال ~: "من استحسن فقد شرع"[6]، وقال: "إنما الاستحسان تلذذ".[7] فالاستحسان الذي يراه الشافعي شنيعاً هو القول بما يستحسنه الإنسان ويشتهيه بلا دليل.
فهذا الاختلاف بين الأئمة في الاحتجاج بالاستحسان كان له أثر بليغ في اختلافهم في كثير من الفروع. مثل اختلافهم فيما إذا صلت امرأة في صف الرجال، أو رجل في صف النساء.
فذهب أبو حنيفة وأصحابه أن صلاته تفسد ولا تفسد صلاة المرأة. وذهب الأئمة الثلاثة أن ذلك يكره ولا يفسد الصلاة. فعمدة الأحناف هنا الاستحسان، قالوا قد ورد الحديث بتقدم الرجل وتأخير المرأة، فإذا تأخر عنها أو حاذاها كان تاركاً لفرض المقام.[8]

1. الاستصحاب: وهو استصحاب الحال لأمر وجودي، أو عدمي، عقلي، أو شرعي. ومعناه: أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل.[9] وقد اختلف فيه هل يكون حجة عند عدم الدليل؟ على قولين: 
      فذهب أكثر الحنفية وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وغيره إلى بطلانه، ومن هؤلاء من جوز به الترجيح لا غير.[10]
وذهب الحنابلة، والمالكية، وأكثر الشافعية، والظاهرية: أنه حجة سواء كان في النفي أو الإثبات.[11]
وقد كان للخلاف في اعتبار حجيته أثر في الاختلاف في عدد من الفروع الفقهية بين المذاهب، نذكر منها: مسألة إذا أنكر المشتري ثبوت الملك للمشفوع منه فهل يطالب الشفيع بإقامة البينة على ثبوت الملك ؟ ذهب الشافعية إلى أنه لا يطالب الشفيع بإقامة البينة، لأن وضع اليد دليل على الملك، والأصل بقاء الملك، فالشفيع مستصحب للأصل فلا يطالب بالبينة.
وذهب الأحناف إلى مطالبته بالبينة.[12] فاستصحاب الحال عدم مطالبة الشفيع بالبينة لإثبات الملك.

2.  المصلحة المرسلة: وهي المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها.[13]
وقد اختلف العلماء في القول بها على مذهبين:
3   المذهب الأول: منع التمسك به مطلقاً وإليه ذهب الجمهور.
3   المذهب الثاني: التمسك بها مطلقاً، وهو المحكي عن مالك ~.[14]
لكن  المتتبع لفقه الأئمة الثلاثة واجتهاداتهم في مراجعها الأصلية يجد ما يدل على أنهم جميعا كانوا يبنون أحكامهم الاجتهادية على وفق المصالح المرسلة.[15] فالخلاف بينهم إذن ما هو إلا خلاف لفظي.
وقد كان لاعتبار المصالح المرسلة دليلا مستقلاً كبير الأثر في اختلاف الأئمة في كثير من المسائل الفقهية. أذكر منها مثالاً:  مسألة ضرب من اتهم حملا له على الإقرار. فقد ذهب مالك إلى جواز السجن في التهمة،[16] وإن كان اسجن نوعاً من العذاب، ومضى بعض أصحابه على جواز الضرب أيضاً، لأن في ذلك مصلحة هي استخلاص الأموال من السُّرَّاق. وخالف في ذلك كثير من الفقهاء من المذاهب الأخرى لأن ذلك تعذيب له وهو قد يكون بريئاً.

3. سد الذرائع: وهي كل ما يتخذ وسيلة لشيء آخر، بصرف النظر عن كون الوسيلة، أو المتوصل إليه، مقيداً بوصف الجواز أو المنع.[17] وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بسد الذرائع على قولين:
القول الأول: يرى عدم اعتباره دليلا شرعياً في إثبات الأحكام الشرعية. وهذا مذهب الحنفية، والشافعية.[18]
القول الثاني: يرى اعتباره دليلا شرعياً. وهذا مذهب المالكية والحنابلة.[19]
            وقد انبنى على هذا الخلاف في اعتبار الذرائع والقول بسدّها والتوسع في ذلك، وعدم اعتبارها وتضييقها، خلاف بين الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية. مثل اختلافهم فيمن اشترى طعاماً بثمن إلى أجل معلوم، فلما حل الأجل لم يكن عند البائع طعام يدفعه إليه، فاشترى من المشتري طعاما بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له.
فأجاز ذلك الشافعي لأنه لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب له عليه ومن المشتري نفسه. ومنع من ذلك مالك والحنابلة ورأوه من الذريعة إلى بيع الطعام قبل أن يستوفى.
والذي سبب الخلاف هو الاعتماد على سد الذرائع كدليل يهرع إليه فيما لا نص فيه، أو عدم اعتباره. [20]

تحرير: ذ. مراد بوكريعة
مقتبس من رسالتي في الماستر

تم حذف الاحالات من هذا البحث للأمانة العلمية وحماية الحقوق.
المرجو المراسلة على : Mourad-bgr@hotmail.fr

0 تعليقات:

إرسال تعليق