2011/03/06

أسباب الاختلاف: الاختلاف في فهم النصوص.


    عندما تكون دلالة النصوص غير قطعية، ويكون المعنى محتملاً أو خافياً فإن ذلك يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام بين الفقهاء. قال الشيخ علي خفيف: "من الأسباب التي أدّت إلى اختلاف الفقهاء على العموم في الأحكام الشرعية أن كثيراً منها قد استمد من القرآن أو من السنة.. 


وأن ما جاء من النصوص منها دالاً عليها لم يكن على وضع واحد في دلالته، بل اختلفت دلالته عليها، فكان منها ما هو قطعي في دلالته، فلم يكن بين الفقهاء خلاف فيما دلّ عليه من أحكام، وكان منها ما هو ظني في دلالته عليها، فاجتهد الفقهاء في تعرف ما يدل عليه. واستعانوا في ذلك بما يعرفونه من قواعد اللغة العربية وأساليبها".[1] ويشمل الاختلاف في فهم النص ما يلي:

1.  الاشتراك في اللفظ: والمشترك هو اللفظ الواحد المتعدد المعنى الحقيقي.[2] وقيل: هو اللفظ الموضوع لأكثر من معنى كالعين مثلاً فإنه لفظ وضع للباصرة، وللجارية، وللذهب، وللجاسوس ولذات الشيء.[3] والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة استعملا ألفاظاً مشتركة كثيرة فكان ذلك سبباً في اختلاف الفقهاء فيما أراد الشارع وقصده منها على الحقيقة.
والاشتراك قد يكون في الاسم كالجَوْن فإنه يطلق على الأبيض وكذلك الأسود. وقد يقع في الفعل كقوله تعالى: ﴿والليل إذا عسعس[4] فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره.[5] وقد يكون في الحرف كما في الواو من قوله تعالى: ﴿والراسخون في العلم [6] فإنها محتملة للعطف فيكون الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه، ومحتملة للاستئناف، فيكون الله تعالى مستأثراً بعلمه دون خلقه.[7]
وقد اعتبره ابن رشد من الأسباب الموجبة للخلاف بين الفقهاء فقال: « الاشتراك الذي في الألفاظ ، وذلك إما في اللفظ المفرد، كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ النهى هل يحمل على التحريم أو الكراهية ؟ وأما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى: ﴿إلا الذين تابوا[8] فانه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف ».[9]

2.  الحقيقة والمجاز: استعمل الشارع بعض الألفاظ فيما وضعت له عند التخاطب وهي الحقيقة، واستعمل البعض الآخر منها في غير ما وضعت له أولا في اصطلاح التخاطب وهذا ما يسمى بالمجاز.[10] مما أثر في اختلاف الفقهاء عند ورودها هل المراد منها الحقيقة أم أن اللفظ يصرف عن حقيقته إلى المجاز أم المراد كلاهما. فترتّب عن هذا الخلاف اختلافهم فيما يستفاد من النصوص من أحكام. ومن أمثلة ذلك: اختلافهم في آية الوضوء في قوله تعالى: ﴿أو لمستم النساء تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً[ [11فذهب بعض فقهاء الشافعية إلى أن المراد بلامستم يعم الوطء واللمس وخالف آخرون فقالوا إن المراد هو الوطء فقط. ومناط الخلاف هو معنى المس في الآية هل المراد به المعنى الحقيقي وهو اللمس باليد، أم المعنى المجازي الذي هو الوطء.[12]

3.  اللفظ المطلق والمقيد: المطلق هو ما دلّ على مدلول شائع في جنسه.[13] والمقيد ما دل على الماهية بقيد من قيودها، أو ما كان له دلالة على شيء من القيود.[14]
وقد جاءت بعض نصوص الأحكام في الكتاب والسنة في موضع أو مواضع مطلقة، ومقيدة في موضع أو مواضع أخرى. وهذه النصوص قد ترد في موضوع واحد أو في موضوع ليس له به اتصال، ولكن يوجد قياس أو شبهة قياس للإلحاق، وهذا له أثر في اختلاف الفقهاء في كثير من المسائل.
وقد اتفقوا على أن الخطاب إذا ورد مطلقًا حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدًا حمل على تقييده، أما إن ورد مطلقًا في موضع، مقيدًا في موضع آخر، واختلفا في السبب دون الحكم، كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل. فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل، مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين، فهذا القسم هو موضع الخلاف. فقد ذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية. وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد.[15]
4.  العموم والخصوص: ومن أسباب الاختلاف بين الفقهاء أيضا تردد اللفظ بين أن يكون عامًا يراد به الخاص، أو خاصًا يراد به العام، أو عامًا يراد به العام، أو خاصًا يراد به الخاص. أو يكون له دليل خطاب أو لا يكون له.[16]
ومن الأمور التي كان لها بليغ الأثر في اختلاف الفقهاء في بعض الأحكام اختلافهم في جواز تخصيص العام من الكتاب أو السنة المتواترة بالدليل الظني ابتداءً كخبر الواحد والقياس. فالحنفية لا يجوزون هذا التخصيص؛ لأن العام من الكتاب أو السنة المتواترة قطعي في وروده وفي دلالته، والقطعي لا يصح تخصيصه بالظني. والجمهور يجوزون ذلك لأن العام عندهم ظني الدلالة.[17]
وقد ترتب عن الخلاف بين الحنفية والجمهور في ذلك اختلاف في كثير في الفروع؛ أكتفي بذكر مثال واحد: قال تعالى بعد بيان المحرمات في الزواج في سورة النساء: ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم[18] مع ما روي عن رسول الله @ : ﴿ لاَ تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا [19] فذهب الجمهور غير الحنفية أن الحديث بيان للآية، ومخصص لها، لأنهم يرون أن كلا الدليلين ظني، فالآية ظنية من ناحية دلالتها على العموم، والحديث ظني من ناحية وروده. وأما الأحناف فذهب أغلبهم إلى أن الآية قد خصصت بدليل قطعي مستقل آخر، هو آية تحريم المشركات، وبآية تحريم المعتدّة[20] فأصبحت دلالتها ظنية، فجاز لذلك تخصيصها بهذا الحديث الظني. 
 
5.  دلالة الأمر والنهي: لا تخلو آية  من آيات الأحكام أو حديث من أحاديثها من صيغة تدل على طلب موجه إلى المكلف بفعل أو نهي عنه. فهما مدار التكليف، وعليهما يرتكز، ولهذا كان الخلاف في دلالتهما سبب للخلاف بين الفقهاء في كثير من المسائل.

3  الأمر: وهو طلب الفعل على جهة الاستعلاء.[21] وقد اختلف العلماء في دلالة الأمر المجرد عن القرائن، هل يدل على الوجوب أو الندب ؟ على أقوال عدّة، أهمها:
القول الأول: أن الأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب. وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.[22]
القول الثاني: أنه يدل على الندب. وهذا مذهب عامة المعتزلة، وجماعة من الفقهاء، ونقله الآمدي قولاً للشافعي.[23]
وكان هذا الخلاف سبباً في اختلافهم في كثير من أوامر القرآن والسنة المجردة عن القرائن. بين قائل بالوجوب وقائل بالندب أو الإباحة.
ومن آثار ذلك: الاختلاف في حكم الإسراع بالجنازة[24]. فذهب ابن حزم[25] إلى وجوب الإسراع بالجنازة عملا بقوله @ : ﴿أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ﴾.[26] بينما يرى جمهور الفقهاء أن الأمر هنا للندب، قال ابن قدامة ~: « لا خلاف بين الأئمة رحمهم الله في استحباب الإسراع بالجنازة وبه ورد النص ».[27]

3  النهي:  وهو طلب الكف، على جهة الاستعلاء.[28] واختلف أيضا في دلالة صيغة النهي المجردة عن القرائن على عدّة أقوال، أهمها ما يلي:
القول الأول: أن النهي المجرد عن القرائن يدل على التحريم. وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.[29]
القول الثاني: أنه يدل على الكراهة. وإليه ذهب بعض الأصوليين،[30] وقال الزركشي: "حكاه بعض أصحابنا وجهاً".[31]
وهذا الخلاف كان له أيضاً أثر في اختلاف الفقهاء في كثير من نواهي الشرع، نذكر منها مثالاً: مسألة اختلافهم فيما يدل عليه حديث ابن عمر أنه قال: رأى رسول الله@ عليَّ ثوبين معصفرين فقال: ﴿إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلاَ تَلْبَسْهَا[32] فقد اختلف الفقهاء في موجب هذا النهي.
فذهب فريق إلى أن ذلك على سبيل الجزم وأن لبسها يومئذ كان حراماً، وذهب آخرون إلى أن لبسها مكروه، وأنه أمر بترك لبسها استحساناً احتفاظاً بتقاليد العرب وبعدا وكراهية لعادات أهل الكفر. ورأى قوم أنه حكم خاص أمر به ابن عمر، وأن لبسها مباح.[33]
تحرير: مراد بوكريعة
مقتبس من رسالتي في الماستر.

تنبيه : تم حذف الاحالات من هنا للأمانة العلمية والحفاظ على الحقوق.

0 تعليقات:

إرسال تعليق